بين المرزوقي والسبسي

بدا واضحاً، أن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية كانت تمهيداً لجولة، قد تكون عاصفة، بين شخصيتين تثيران في بلدهما جدلاً عاصفاً. الباجي قائد السبسي، المحامي والسياسي المخضرم، الذي يعشق الزعيم الحبيب بورقيبة، ويتخذ منه مرجعية له، والذي رأى فيه جزء واسع من أنصار حزب التجمع الدستوري (الحاكم سابقاً) والمنحل، مظلة مهمة، ستمكنهم من العودة إلى السلطة بطريقة ديمقراطية. ويتمتع السبسي، الذي يعيّره كثيرون بسنه المتقدمة (يقترب من التسعين)، بذكاء حاد، وحضور عجيب للبديهة والذاكرة، ويتمتع بثقافة الدولة، لكن المسافة بينه وبين الشباب لا تزال عميقة.
في المقابل، يقف المنصف المرزوقي الذي توفرت له الظروف المناسبة لكي تختاره مكونات الترويكا رئيساً مؤقتاً استمر ثلاث سنوات. وعلى الرغم من تاريخه الحقوقي وثقافته الواسعة، وتمكنه من العربية والفرنسية والإنجليزية، إلا أنه لم يحم حزبه الذي أسسه في سنوات الجمر من الانقسام والتفكك، ولم ينجح في تجميع العائلة الديمقراطية حوله، ولم يتمكن من بناء علاقة ثقة بالوسط الإعلامي، ولم يوفق في أن يؤسس جسراً متحركاً مع قطاع واسع من النخب، بما في ذلك القسم الأكبر من القوميين الذين يشترك معهم في المرجعية الأيديولوجية العامة، كما لم يحافظ على أبرز مستشاريه في القصر الجمهوري، ما يفسره بأنه أخطأ في اختيارهم.
أراد الذين صوتوا للباجي قائد السبسي الكثير، منهم من يراهن على الاستمرارية، أملاً في استعادة الاستقرار السياسي، وإنعاش الاقتصاد. في حين أن الذين انحازوا للمرزوقي، وهم نحو المليون ناخب، فقد رأوا فيه الضامن لحرياتهم وحقوقهم ضد ما يعتبره كثيرون خطر عودة المنظومة القديمة. ولهذا، يحاول المرزوقي إحداث القطيعة مع ما يسميها القوى القديمة التي تهدد قيم الثورة، وتعمل على الانتكاس إلى الخلف، لكن حلفاءه السابقين في الوسط الديمقراطي يرفضون التسليم له بالزعامة، وينتقدون، بشدة، مزاجيته الصعبة، حسب اعتقادهم. كما يهاجمونه بقوة بسبب تحالفه مع حركة النهضة.
من هذه الزاوية، يجد التونسيون أنفسهم أمام شخصيتين مختلفتين، وإن كان الخلاف بينهما لم يتحول إلى مشروعين مجتمعين متناقضين. صحيح أن جزءاً من العوامل المحددة في الاختيار، موقف حركة النهضة منهما. فالمرزوقي الذي انتقد موقف قيادة الحركة عندما دعت إلى الحياد، لأنه كان يتوقع أن تنحاز علناً لصالحه، بحكم تحالفهما السابق، وأن تجند ماكينتها للتسويق له، لكنه، مع ذلك، استفاد كثيراً من جمهور النهضة الذي صوت له بكثافة في مرحلةٍ شهدت انهيار حزبه. ولهذا، فإن السؤال الذي يبحث له المرشحان عن إجابة يخص الموقف القادم لحركة النهضة، بعدما صرّح بعض قادتها إن موقفها في الجولة الثانية سيكون مختلفاً. ومشكلة المرزوقي أنه كلما اقترب من “النهضة” أو خطب ودها، تتسع المسافة بينه وبين أطراف واسعة من الوسط الديمقراطي العلماني، وخصوصاً اليساريين الذين يعملون حالياً على إقناع السبسي بعدم التحالف مع الإسلاميين، أو بعدم التفكير في إدخالهم ضمن الائتلاف الحكومي.
هذه قراءات الفاعلين السياسيين، أما الجمهور العريض فقد تكون له مقاييس أخرى، يستند إليها ليحدد اختياراته. والمؤكد أن هناك معايير متعددة بين الناخبين. وهناك البعد الجهويّ غالب لدى بعضهم، وهناك من يستند إلى السن أو المخاوف أو الفرص التي قد تترتب على الاختيار الشخصي والجماعي. لكن، ما يريد أن يصل إليه المرزوقي في حملته لم يتحقق بعد، فهو يريد أن يقنع التونسيين بأن خلافه مع السبسي ليس شخصياً، وإنما هو بين الثورة والثورة المضادة. وأكدت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية أن قطاعات واسعة من الناخبين لم يقتنعوا بهذه الفرضية التي تقوم عليها حملة المرزوقي.
ستكون الأسابيع المقبلة حاسمة، وسيتبيّن إلى من ستنحاز الأغلبية، وهنا كل المعادلة.

* كاتب من تونس/”العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *