أرسلت فرنسا ما يزيد على300 ألف جندي إلى الجزائر عام 1830؛ لإخضاعها للسلطة الفرنسية. وبعد معارك عدة مع جنود الداي حسين المدافعين عن أراضيهم أُثخضعت الجزائر للاحتلال الفرنسي، ووقّع الداي حسين حاكم الجزائر آنذاك وثيقة استسلامها في مقابل كفالة الحرية الدينية للسكان وحفاظهم على أملاكهم الخاصة وأرواحهم، واحتفاظ الداي حسين بأمواله وممتلكاته. بعد رحيل الداي حسين مع أمواله وحاشيته إلى إيطاليا، انتُهكت معاهدة الاستسلام، فاستُبيحت مدينة الجزائر ودُمِّرت مساجدها وممتلكات سكانها ونُكِّل بهم.
لم يتوقف الجزائريون عن مقاومة الاستعمار الفرنسي أبداً، وعلى رغم اعتبار فرنسا الجزائر جزءاً من أراضيها 1934، بدأت أولى طلائع المقاومة المنظمة بقيادة الأمير عبدالقادر الجزائري بعيد الاحتلال لتستمر حتى 1847، استُخدمت خلال هذه الفترة حرب العصابات ضد القوات الفرنسية، وفُعلت مقاطعة القبائل للفرنسيين، وتمت محاولة استمالة سلطان المغرب والعثمانيين ليقفوا في صف الثورة الجزائرية، وهذا ما لم يحدث بصورة فاعلة، كما هُودِن العدو تارة وحورب تارة أخرى. فانتهت أولى مراحل مقاومة الأمير عبدالقادر الجزائري عام 1835، إذ وقّعت فرنسا وثيقة «دو ميشال»؛ لوقف إطلاق النار، تضمنت حرية التبادل التجاري بين الطرفين، إلى أن خرقت فرنسا الاتفاق بعدها بفترة قصيرة، ثم وقّعت هدنة أخرى عام 1835؛ ليتفرغ عبدالقادر الجزائري لتقوية جيشه واقتصاد المناطق التي يسيطر عليها، حتى اندلعت الحرب مع القوات الفرنسية مرة ثالثة مارس خلالها الفرنسيون القتل الجماعي، ومصادرة الأراضي، وتهجير السكان الأصليين، ونُفي قادة الثورة الشعبية حتى انتهى المطاف بالأمير عبدالقادر الجزائري في دمشق حيث وافته المنية عام 1883.
بعد إخماد ثورة الجزائري ونفيه بدأت مرحلة المقاومة غير المنظمة، لتأتي موجات ثورية كل بضع سنين، وبعد أن تُحبَط تبدأ موجات أخرى، حتى اندلعت الثورة الحديثة عام 1954، التي انتهت بإعلان استقلال الجزائر عام 1962.
بعد أن اعتُبرت الجزائر جزءاً من الأراضي الفرنسية، تدفق إليها المهاجرون من فرنسا وسائر بقاع أوروبا، حتى تضاعف عدد المستعمرين (سمو بذوي الأقدام السوداء لاحقاً) من 25 ألفاً عام 1839، إلى قرابة ثلاثة ملايين لحظة إعلان استقلال الجزائر 1962، 80 في المئة من ذوي الأقدام السوداء وُلِدوا على الأراضي الجزائرية، وغادرها معظمهم بعد الاستقلال، على رغم ترحيب رئيس الحكومة الجزائرية الموقتة وجبهة التحرير فرحات عباس ببقائهم باعتبارهم مواطنين جزائريين. لكن هؤلاء اختاروا التعامل مع الجزائريين بمنطق آخر، فأنشأوا منظمات إرهابية، مثل منظمة «اليد الحمراء» و«الجيش السري» وارتكبوا عمليات إرهابية ضد الثوار والسكان؛ دعماً للقوات الفرنسية، فأرهبوا السكان وأحرقوا الممتلكات، بما فيها مكتبة جامعة الجزائر قبيل إعلان الاستقلال. ثم غادر جلهم البلاد بعده، مع الجزائريين المتعاونين مع الاستعمار.
حاربت فرنسا إبان فترة استعمار الجزائر العلم والتعليم عموماً في الجزائر، واضطهدت المعلمين، وحاربت اللغة العربية، وتحكمت بالأوقاف الدينية، كما حاربت التعليم الديني، وأيضاً حاولت تنصير السكان عبر الحملات «التبشيرية» المباشرة أو باستخدام المساعدات الإنسانية كغطاء لعمليات التنصير. كما منحت المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي الجنسية الفرنسية وسهّلت لهم حياتهم اليومية واستفادت من خبراتهم. فالمعركة كانت عسكرية وثقافية ودينية، لم تتوانَ خلالها فرنسا باستخدام أي وسيلة للتحكم بالسكان واضطهادهم. استمر استعمار الجزائر قرابة 132 عاماً. تم تجهيل الجزائريين واضطهادهم وتهجيرهم، في مقابل تشجيع استيطان الفرنسيين، ولاسيما الأوروبيين بشكل عام في الأراضي الجزائرية. تخلى الجميع عن الجزائر حتى تم دعمها عربياً، ولاسيما من الرئيس المصري جمال عبدالناصر مع ثورة 1954، التي انتهت بإعلان الاستقلال. كل هذا السرد يذكّر بماذا؟ تاريخ الجزائر الحديث ومقاومته للاستعمار الفرنسي، وصعود جبهة التحرير، واستخدام خياري السلام والمقاومة بشكل مستمر عبر تاريخ التحرر الوطني يذكر بشكل رئيس بالوضع الفلسطيني القائم اليوم. فإسرائيل مارست مع العرب على أراضي فلسطين الكثير مما مارسته فرنسا مع العرب على الأراضي الجزائرية آنذاك، من قتل وتهجير وإبادة وتجهيل، إلى نهب وسلب للأراضي والممتلكات، وحتى بناء المستوطنات ومحاولة إحلال شعب أوروبي مكان آخر يتم تهجيره ونفيه أو اضطهاده واعتباره إنسان «درجة ثانية» إن صح الوصف على غرار نظام الفصل العنصري «الأبارتايد». وعلى رغم كل تاريخ الاستعمار الجزائري، وكل دعوات التخذيل واليأس التي ربما أطلقت هنا أو هناك باسم العقلانية، والرضا بالأمر الواقع، وعلى رغم أن الوضع العربي آنذاك كان أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم من ناحية الجهل والضعف والتفكك وقلة الوعي بالتحديات التي تواجه الأمة، والخضوع للهيمنة الاستعمارية الأوروبية على مقدراتها بشكل مباشر، بعد خروجها من الهيمنة العثمانية، إلا أن مرحلة الاستعمار الأوروبي للدول العربية انقضت بكل علقمها، وتحررت الجزائر وبقية الدول العربية من الاستعمار والهيمنة خلال عقود مضت. من هنا نجد أن من يتحدث عن استحالة مقاومة الاستعمار الإسرائيلي اليوم للأراضي العربية يجهل أبسط أبجديات التاريخ. يجهل إرادة التحرر والمقاومة في نفوس البشر التي صنعت العجائب عبر التاريخ، يجهل تقلب موازين القوى عبر الزمن، وتغير ممكنات الواقع. صحيح أن الوضع في فلسطين أكثر تعقيداً من سردية التحرر الجزائرية، لكن ما هو صحيح أيضاً أن الجزائر تحررت بعد نحو 132 عاماً من الاستعمار في ظروف هي أسوأ بكثير من ظروف العرب اليوم، لا على مستوى الحكومات العربية، ولا الفرد وإمكاناته.
“الحياة” اللندنية
اقرأ أيضا
الحماية الاجتماعية لعمال وعاملات المنازل تسائل الحكومة
يفتح فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، ملف توفير الحماية الاجتماعية لعمال وعاملات المنازل.
بركة يبسط حصيلة المشاريع المائية لسنة 2024
كشفت وزارة التجهيز والماء، عن حصيلة سنة 2024 لمحاربة التلوث المائي. وأوضحت وزارة التجهيز والماء …
كيف قاد بلاغ عن مفقود إلى الإيقاع بقاتل رئيس شركة هيلث كير الأمريكية؟
أدى بلاغ عن شخص مفقود ويقظة أحد أفراد شرطة مدينة سان فرانسيسكو إلى اعتقال لويس …