الربيع.. مقدمات وتبعات

الربيع العربي لم يبدأ في الأيام الأخيرة من سنة 2010، كما يعتقد الكثيرون ويربطونه بحادثة احتراق الشاب التونسي محمد البوعزيزي ، ولكن بدايته الفعلية كانت سنة 2004 مع الإعلان عن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تصوره الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بمثابة التكليل لنجاحه العسكري في غزو أفغانستان والعراق، وكان المطلوب تأهيل المنطقة العربية لتكون ضمن مدار الهيمنة الأمريكية الممتدة من آسيا الوسطى إلى ضفاف الأطلسي في المغرب.
بالطبع، كانت تركيا وإيران وباكستان دولا لا يمكن تجاهلها في المخطط الأمريكي، ويبدو أن تركيا وإيران بحكم التماس مع العالم العربي، وتاريخية العلاقة حصلتا على إشارات واضحة بأن تجاهلهما ليس واردا في عملية تطويق الدول العربية.
الرئيس بوش لأسباب لوجستية وداخلية لم يتمكن من رؤية مشروعه يتحقق أثناء فترته الرئاسية الثانية، ولكن عملية التأهيل استمرت لتنضج الظروف الموضوعية بعد ذلك بعامين، والرئيس أوباما وجد أمامه ملفا ساخنا، وتعامل معه بكل سلبية، كعادته، واليوم، المطلوب هو التعامل مع التبعات التي لم تتصورها إدارة بوش، ولم تحسن تقديرها إدارة أوباما.
الوزيرة السمراء، كونداليزا رايس، حاولت أن تخلط نظريتي برجينسكي وكسينجر معا، الأولى، في بناء هلال مقاومة لمواجهة الشرق وتأهبه للمنافسة من جديد، متمثلا في روسيا والصين، والثانية، تسخين الحدث التاريخي لخلق الظروف المواتية، وهو الدرس الذي طبقه كسينجر مع حرب 1973 وكانت مقدمة لاتفاقية كامب ديفيد.
الأمور ليست بهذه البساطة، والوزيرة لم تنتبه بأن نظريات الأمن القومي الأمريكي السابقة تنتمي لظروف تاريخية سابقة، وأن المستقبل يحمل شروطا مختلفة، وأن من أهم تبعات الربيع العربي كانت تحرير طاقة كامنة لم يكن الأمريكيون، ولا حتى حلفاؤهم في المنطقة، أو أعداؤهم، وكذلك الأنظمة العربية نفسها، تعرف ما هي حدود قدراتها.
بوش، رايس، وأوباما أيضا، ينتمون إلى جيل أمريكي يعتبر النجاح الفردي أهم من أية اعتبارات أخرى، جيل تعايش مع ظروف الأسطورة الأمريكية التي صعدت بعد الحرب العالمية الثانية، جيل ينتمي إلى هوليوود أكثر من انتمائه للبنتاغون أو البيت الأبيض، والعالم العربي في المقابل يختزن مظلوميات تاريخية متراكمة منذ العصور الوسطى، ولا أحد يعلم أين يمكن أن ينتهي الغضب.
الدروس التاريخية، وهي قرينة وليست دليلا، تقول أن المسألة ربما تحتاج إلى بضعة عقود من الزمن، وربما تمتد لأكثر من ذلك، المسافة التي فصلت بين الثورة الفرنسية ونهاية الحرب العالمية الثانية كانت نحو 156 سنة، وهذا يعني أجيالا ضائعة تمضي سدى، والمزيد من الطاقات المهدرة، وتعني نهاية الصراع على مبدأ لم يعد لدينا الطاقة أو القدرة على القتال أو النضال.
العالم العربي، كما يبدو في أكثر من بلد (ربيعي)، وضع قدميه على طريق التجربة والخطأ، وهذه قصة مكلفة، حكم ديني، ثم حكم عسكري، ثم حكم حزبي، وتستمر لعبة الكراسي الموسيقية، ولا أحد يمكنه أن يخمن متى تنتهي بالاستقرار، ولكن يمكن أن تتخذ خطوات فعلية لاختصار الزمن اللازم للاستقرار، وبالتأكيد فإن تفعيل العمل العربي المشترك، وإخراج الجامعة العربية من خانة الديكور والبروتوكول لتكون منظمة فاعلة ومؤثرة، تبدو حلولا ضرورية في هذه المرحلة، أما التجاهل واعتبار أن القضايا محلية محضة، فذلك يمثل نوعا من الغفلة التي لا تليق بمستوى التحديات.
“الرأي” الأردنية

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *