التقييم الاستراتيجي للقوة الصينية بعد العام 2014م

في العام 2012م صدر لنا كتاب: نهاية المركزية – الخارطة الجيوسياسية للقوى العالمية في العقد الثاني من القرن 21 – وقد تطرقنا فيه الى عمل تقييم جيوسياسي مرحلي لمستقبل مكانة عدد من القوى العالمية الراهنة كالولايات المتحدة الاميركية وروسيا والصين والهند واليابان على سبيل المثال لا الحصر، وقد وضعنا الصين في حينها بالفصل الثالث الموسوم بـ”المتنمرين الجدد”، تحت عنوان: الصين: الإمبراطورية التي تأخرت كثيرا، وقصدنا بالمتنمرين هنا: كل القوى القادمة والتي تحاول التمرد والتنمر على الإمبراطورية والقوة الاميركية المركزية.
وجاءت خلاصة “تقيمنا الخاص والشخصي” للصين بناء على معطيات المتابعة والمراقبة المتداولة والتي يتم نشرها من خلال تقارير وأخبار وسائل الإعلام الصينية والدولية والعديد من الدراسات وتقارير وأبحاث عدد من المحللين وكتاب مراكز الدراسات السياسية والجيوسياسية والإستراتيجية الدولية حتى منتصف العام 2011م، كالتالي: التأكيد على استحالة ولادة الإمبراطورية الصينية كقوة عظمى عالمية حتى نهاية العام 2030م على أقل تقدير قادرة على لعب دور عالمي جيوسياسي أو جيواستراتيجي شبيه بالولايات المتحدة الاميركية وروسيا، وهذا فقط في حال استمرار الوضع الاقتصادي والعسكري المتنامي إيجابيًا للصين وتراجع دور الامبراطورية الأمريكية العالمي، وعدم ظهور أي تحولات ومتغيرات إقليمية أو عالمية سلبية تحول دون ذلك خلال الفترة القادمة بنفس ثبات المعطيات والشروط سالفة الذكر، مع الأخذ في الاعتبار بأن القرن 21 سيكون قرنًا متعدد الأقطاب والقوى العالمية الفضفاضة، وبالتالي صعوبة امتلاك قوة بعينها دفة الهيمنة العالمية.
ورغم أن القوة العسكرية الصينية تبدو مخيفة بصفة عامة، نظرا لعدة عوامل أهمها بالطبع القوة البشرية الهائلة، فعدد أفراد القوات المسلحة الصينية يصل إلي 2.5 مليون جندي، وهو ما يشكل الجيش الأكبر عالميًا من حيث القوة العددية، إلا أن مسألة الأعداد قد فقدت الكثير من تأثيراتها في ظل تطور نظم التسليح الحديثة، والاعتماد على التكنولوجيا العسكرية أكثر منها على القوة البشرية، عليه فقد تم بناء التقييم بالنسبة للصين حتى تصبح أو تقترب من مفهوم “قوة عالمية” ضرورة تحقيق الشروط والمعطيات التالية:
(1) امتلاك الامبراطورية الصينية الاتساع الجيواستراتيجي الكافي لتخطي حدود الدولة الإقليمية، وذلك من خلال تواجدها وحضورها في مختلف أرجاء العالم سواء كان بالتواجد، أو القوة الناعمة أو الصلبة المباشرة أو غير المباشرة، حيث لا يجب أن يقتصر نفوذها الخارجي فقط على القطاعات الاقتصادية، بل ينبغي أن يتضمن أيضاً وجوداً عسكرياً ملموساً يؤثر في الأحداث والتطورات السياسية الجارية.
(2) امتلاك القوة الناعمة المناسبة للهيمنة العابرة للقارات كما هو اليوم مع الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال لا الحصر، وقد نجحت بالفعل من الناحية الاقتصادية ولكنها لازال حضورها الثقافي أو التعليمي أو الدبلوماسي على سبيل المثال لا الحصر، أو غيرها من وسائل القوة الناعمة ضعيف جدًا على رقعة الشطرنج الدولية.
(3) امتلاكها لما يسمى بالقدرة العسكرية اللوجيستية العابرة للقارات، والتي تؤهلها للمحافظة أو حتى الدفاع عن مصالحها خارج نطاق محيطها الإقليمي الجغرافي كامتلاك الأقمار العسكرية المتطورة، وطائرات التزود بالوقود في الجو، وحاملات الطائرات، وامتلاكها للغواصات النووية والاستراتيجية القادرة على احتواء أو مواجهة أبسط الأخطار الموجهة لسيادتها تحت الماء، وطائرات الإنذار المبكر، وبالطبع فإنه من الضرورة أن تمتلك أكثر من قطعة عسكرية واحدة من كل ما سبق ذكره.
عليه فإننا وانطلاقا من تقيمنا سالف الذكر للقوة الصينية، والذي انتهى في منتصف العام 2011م، سنقوم بإعادة بناء وكتابة تقييم جديد يأخذ بالاعتبار التحولات والمتغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الجديدة، والتي حدثت في الأعوام 2012-2013م والخاصة بالقوة الصينية بناء على المعطيات السابقة، ومن أبرزها:

(1) وصول الصين للمرحلة التي أصبحت فيها موازنتها العسكرية هي الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الاميريكة حيث تبلغ رسميًا 106 مليارات دولار في 2012، بزيادة نسبتها 11،2 %، وهذه الموازنة لا تتضمن نفقات تحديث الأسلحة النووية، أو مشتريات أسلحة من الخارج، وتبلغ النفقات العسكرية الصينية الحقيقية ما بين 120 و180 مليار دولار.

(2) تدشين الصين في العاشر من أغسطس من العام 2011م لأول حاملة لطائراتها، لتصبح بذلك خامس دولة آسيوية تملك مثل هذا السلاح، والدولة الحادية عشرة على مستوى العالم من بعد الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرازيل والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند، كما تواصل إنتاج طائرة الشبح جي-20 الخاصة بها وصاروخها دي. في-21دي البالستي المضاد للسفن الذي يبلغ مداه الأقصى 1500 كيلومتر ولكنها حتى الآن لا تملك طائرات التزود بالوقود في الجو وهي من القطع اللوجيستية المهمة جدًا للقوى العابرة للحدود.

(3) نجاح الصين بدرجة كبيرة في استثمار قوتها الاقتصادية والعلمية عسكريًا فيما يسمى بالاستثمارات في حروب الانترنت والحروب المضادة للأقمار الصناعية، والأسلحة المضادة للطائرات والسفن، والصواريخ الباليستية، والتي يمكن أن تهدد طريقة أمريكا الأساسية في عرض القوة ومساعدة الحلفاء في الباسيفيك – وخاصة القواعد الجوية المتقدمة، ومجموعات الحاملات الضاربة”.

(4) تطويرها أنظمة صاروخية متقدمة لاستهداف الأقمار الصناعية العسكرية، وأنظمة صاروخية مضادة للصواريخ العابرة للقارات، وهو مجال عمل يجعل الصين أكثر تقدما، من الناحية العسكرية، من دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان.

(5) توسع دائرة تحالفاتها للتعويض عن ضعف قدراتها الجيوسياسية وخصوصًا في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا المحيطة بالهند والقريبة من تايوان، كذلك توسع التواجد الصيني العسكري في القارة الأفريقية، فعلى سبيل المثال يوجد في السودان وحده ما يزيد عن 4 آلاف جندي صيني.

(6) تلاحظ أن الصين تعمل بشكل واضح خلال السنوات 2011-2013م على تعزيز مساحة قوتها الناعمة، وفي هذا السياق تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ في جلسة جماعية نقاشية لأعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يوم الاثنين الموافق 30/12/2013م، بتعزيز القوة الناعمة الثقافية للصين من خلال نشر القيم الصينية الحديثة وإظهار سحر الثقافة الصينية للعالم، وحث شي على بذل جهود لتعزيز الثقافة الاشتراكية وتعميق الإصلاح في النظام الثقافي وتدعيم الإبداع الثقافي للشعب، وقال: إن هذه الإجراءات من شأنها زيادة القوة والتنافسية الثقافية الصينية ككل، وأوضح أنه من أجل تعزيز قوة الصين الناعمة فإن البلاد في حاجة إلى بناء قدرتها على مستوى الاتصال الدولي، وبناء نظام اتصال واستخدام أفضل وسائل الإعلام الجديدة، وزيادة الإبداع والنداء العاطفي ومصداقية دعاية الصين.
إذا فالصين تسير حتى نهاية العام 2013م في الطريق الصحيح نحو هدفها المنشود، وهو أن تتجاوز الإقليمية وتصبح قوة عالمية كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية وروسيا رغم بعض المنغصات والعقبات التي تواجهها، وخصوصًا من الناحية السياسية والجيوسياسية، وعلى وجه الخصوص حيال تلك القضايا التي تنظر إليها من وجهة نظرها الشخصية على أنها انتهاك لسيادتها القومية والوطنية التاريخية كالمسالة التايوانية، وقضية الجزر المتنازع عليها مع اليابان على سبيل المثال لا الحصر، والتي تلاها القرار الصيني الخطير بإنشاء منطقة دفاع جوي تشمل كل الجزر غير المأهولة والخاضعة اليوم لسلطة اليابان، ما يترتب عليه تقاطع المنطقتين الدفاعيتين الجويتين الصينية واليابانية، وهو أمر يضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لليابان.
عليه وبناء على المعطيات سالفة الذكر، وبالاعتماد على المسار الراهن والصحيح الذي تسير عليه الصين حتى نهاية العام 2013م مع افتراض أن يبقى سيناريو الاستمرارية هو السيناريو المعتمد لمستقبل الصين دون منغصات جذرية في الاقتصاد والسياسة يمكن أن يحول دون استمرار الصين في طريقها الصحيح للخروج من الإقليمية والاتجاه إلى العالمية، فإننا يمكن أن نتوقع بأن الصين ستنجح في عبور ذلك الخط الفاصل بين العالمية والإقليمية خلال الـ 15 سنة القادمة – وبمعنى آخر – مع حلول العقد الثالث من الألفية الثالثة – أي – العام 2030م، ولازلنا نؤكد أنه لا يمكن للصين أن تصل إلى مستوى القوة الأميركية العابرة للقارات حتى ذلك الوقت على أقل تقدير، وهذا على افتراض استمرار تراجع الهيمنة والقوة المركزية للامبراطورية الأميركية حتى تصل الى نقطة التقاطع صفر مع الصين في نفس العام.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية.

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *