بديهي أن القراءة الرقمية هي أمر لا غنى عنه من أجل فهم أية ظاهرة، ولا تشذ الانتخابات عادة عن هذه القاعدة، لأن الأرقام عادة ما تقول الحقيقة دون مجاملة. لكن بالمقابل، من الضروري التأكيد أن الاكتفاء بقراءة هذه الانتخابات من منظار الأرقام هي قراءة قاصرة، لأسباب عديدة ليس أقلها أن الأرقام تحتمل عادة العديد من القراءات وليس قراءة واحدة فحسب، أي أنها لغة مخادعة بامتياز. وحتى يعطى أي تحليل للانتخابات ما يحتاجه من المصداقية فيجب أن يقترن بالقراءة السياسية.
بداية، وللتدليل على ماسبق، ماذا تقول الأرقام؟
الأصالة والمعاصرة انتصر باحتفاظه بالمركز الأول في مختلف الجماعات على المستوى الوطني بل وزاد عدد مقاعده بأزيد من 600 مقعد. الاستقلال انتصر باحتفاظه بالمركز الثاني، رغم التراجع البسيط في عدد مقاعدة بحوالي 180، مع فوز معنوي مهم في الأقاليم الجنوبية ذات الخصوصية الوطنية. التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية والاتحاد الدستوري كلها انتصرت لأنها حافظت على مراتبها وتمكنت من زيادة عدد منتخبيها بنسب متفاوتة. ماذا يبقى؟ مهزوم وحيد هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي فقد قرابة خمس مقاعده وتقهقر من المركز الرابع إلى السادس. ماذا بعد؟ منتصر أكبر هو العدالة والتنمية باحتلال الأغلبية في معظم المدن الكبرى، ومضاعفة مقاعده ثلاث مرات، وحصوله على أكبر عدد من الأصوات، والارتقاء من المركز السادس للثالث، وأرقام فرعية أخرى تكرس “فوزا تاريخيا” لا نبالغ إذا قلنا أنه يتجاوز في أهميته الفوز بانتخابات برلمان 2012، لهذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية، في سياق معاكس لكل ما يجري في وطننا العربي، وهو ما ليس مستغربا في المغرب الذي يحتفظ بالريادة عربيا في جميع المجالات، ويسبق نظراءه العرب سنوات في إدارة شؤونه السياسية، بما يجعله مدرسة حقيقية لكل من يريد التعلم، دون أن يحمل هذا الكلام ذرة مبالغة أو غرور.
للمزيد: النتائج الرسمية الأولية لاستحقاق 4شتنبر
إذا، ما الذي ستضيفه القراءة السياسية إلى ما سبق من معطيات رقمية؟ ستضيف الكثير، بل وستقلب المعطيات السابقة. فهي ستكرس العدالة والتنمية فائزا أكبر، وتدعم فوزه بأداء جيد عموما للأغلبية الحكومية، وتقول بهزيمة المعارضة هزيمة قاسية في المجمل، بل وستظهر أن ما جرى هو زلزال لحزبي الكتلة الديمقراطية التاريخية، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، كيف ذلك؟
لقد زاد عدد المقاعد التي تنافست عليها الأحزاب الثمانية الأولى مقارنة بتلك التي تنافست عليها عام 2009 بأزيد من 6330 مقعدا، إذا ما أضيف لها المقاعد التي خسرها الحليفين الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وتقدر بأزيد من 750 مقعدا أخر، سيصبح المجموع حوالي سبعة آلاف مقعد، فأين ذهبت؟ نصفها تماما للفائز الأكبر العدالة والتنمية، وهو ما يفسر جانبا من فوزه في المدن الكبرى. وماذا بشأن المتصدر الأصالة والمعاصرة؟ لقد فاز بحصة تتجاوز قليلا العشرة بالمائة من هذه المقاعد الإضافية، وهو نفس ما أنجزته أحزاب الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية حليفي العدالة والتنمية، أي أننا نستطيع القول بالميزان السياسي أن “انتصار” الأصالة والمعاصرة لا يتجاوز انتصار الحزبين الأصغر. ولو أضفنا غنيمة التجمع الوطني للأحرار المقدرة بأربعة في المائة من المقاعد الإضافية (وهي بالمناسبة نفس ما حصل عليه قطب المعارضة الأصغر الاتحاد الدستوري) نجد أن الأغلبية هيمنت على قرابة الثمانين بالمائة من كعكة الانتخابات الجماعية لعام 2015 تاركة القطعة الصغيرة المتبقية لمعارضة مصدومة لم تستوعب بعد ما جرى.
درس سياسي آخر يمكن استخلاصه من هذه النتائج: لقد كانت وبحق امتحانا لخيارات زعامات هذه الأحزاب المتنافسة المشخصنة. لقد خاض زعماء الأحزاب الثمانية “لعبة موت” رهنوا فيها مستقبلهم السياسي بنتائجها، بل وغامر بعضهم في سبيل فرض رؤاهم بمستقبل أحزابهم ولو أدت سياساتهم لانقسامات. ويبدو واضحا الآن الثمن البالغ الذي دفعته هذه الأحزاب ونقصد تحديدا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. لقد خاض حميد شباط وادريس لشكر معركة كسر عظم للهيمنة على حزبيهما وفرض إعلان الحرب على العدالة والتنمية ورفض التحالف معه في التجربة الحكومية الحالية بحجج يدلل على ضعفها أنها لم تجد أي آذان صاغية لدى المواطنين، الذين كافأوا العدالة والتنمية وعاقبوا خصميها. وعليه، فاحترام المنطق السياسي يقول بأن على شباط ولشكر الاستقالة مع كامل أعضاء فريقهما القيادي، قبل أن تفرض عليهما، أو يحكم بالتمزق التام على الحزبين التاريخيين، لتقلب صفحتهما في المدى المنظور على الأقل.
للمزيد: هل يكون شباط أول ضحايا الانتخابات الجماعية والجهوية
إن استقالة شباط ولشكر وفريقيهما إذا تمت، يمكن أن تقوي الأمل ببعث عملية إصلاحية حقيقية في الحزبين العريقين، يمكنها أن تقوي أملهما في انتخابات 2020 الجماعية و 2021 البرلمانية!!! وماذا بشأن برلمان 2016؟ للأسف، هو قطار فات، لن يفيد الحزبين البكاء على لبنه المسكوب، لأن الرهان الآن هو على البرلمان الذي يليه، وهو الأمر المرهون بكيفية إدارة كوادر الحزبين العريقين عملية الإصلاح الداخلية وعمقها، والتي يمكن أن تحدث انقلابا حقيقيا في المشهد السياسي المغربي، إذا ما جلبت لقيادة الحزبين عناصر لا تحمل “ثارات” مع العدالة والتنمية، وتتقبل بالتالي فكرة التحالف معه والدخول إلى الحكومة التي سيشكلها في أعقاب فوزه في انتخابات العام المقبل!!!
وماذا لو تحايل شباط ولشكر بالاستعانة بلعبة الأرقام المراوغة ورفضا دفع ثمن أخطائهما؟ سيسير الحزبان باتجاه التقهقر أو التقهقر!! وهو تقهقر سيقترن بتشظي الحزبين التام إلى أحزاب لن تجد لها مكانا بين الخمسة أو الستة الكبار، بعضها ضعيف داخل الحكومة، وبعضها هامشي في المعارضة.
وماذا بشأن قطبي الحياة السياسية العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة؟
بالنسبة للأصالة والمعاصرة، يوجد زعماؤه أمام تحدي قراءة النتائج قراءة سياسية لا رقمية. فالمركز الأول في الانتخابات الجماعية وقبلها المهنية لن يترجم نصرا في حال بقي الحزب لفترة طويلة خارج تجربة التسيير الحكومي. ولو أضفنا أن الحزب لم يتمكن من تحقيق فوز عريض واحد في أي من المدن الكبرى ذات التأثير النفسي والسياسي الحاسم، بل وفقده لمدن مراكش وطنجة، كل ذلك يلقي ظلالا كثيفة على حقيقة هذا الانتصار، ويحتم على حكماء الحزب التحفظ وهم يحتفلون بفوزهم “الرقمي”. طبعا سيبقى الحزب رقما صعبا عندما يتعلق الأمر بالجهات ومجالسها، حيث يمكنهم من الآن الاحتفال بقرب تسيير جهات كبرى بصلاحيات واسعة، حتى من بين تلك التي فقدوا مدنها الكبرى كجهة مراكش آسفي، وطنجة تطوان الحسيمة، والجهة الشرقية.
إن الخطاب المتشنج الذي يضفي مزيدا من الاحتقان على المشهد السياسي المغربي، هو أمر ليس في مصلحة الأصالة والمعاصرة- كما أنها ليست في مصلحة العدالة والتنمية على المدى البعيد-، ويجب أن يراجع أصحاب هذا النهج في الحزبين سلوكهما، لما فيه مصلحة حزبيهما أولا ومصلحة البلاد والعباد تاليا. إن حزبا يدير الحكومة يوجد في حالة صدام مع حزب يدير الجهات والغرف المهنية، هو أمر لا تخفى آثاره السلبية على مصالح المواطنين، ووجودهما في مقاعد المسؤولية كقطبين للعمل السياسي والاقتصادي بالبلاد، يحتم عليهما وجود قنوات اتصال وتفاهم وتنسيق بينهما، إذا أريد للتجربة السياسية المغربية الرائدة مزيدا من الرقي والتقدم.
وهنا، على العدالة والتنمية، رغم انتصاره العريض أن لا يغفل أهمية استمرار نهج التنسيق مع الحليف والخصم، فموقع الريادة يفرض عليه مثل هذا السلوك، إذا أراد النجاح لتجربة إدارته للشأن العام في مختلف المدن الكبرى التي احتفل بالفوز فيها. كما ان عليه أن يختار أجود العناصر التي ستتحمل المسؤولية، بناء على معايير الكفاءة وليس الانتماء الحزبي. كما أن عليه أن يتنبه إلى حقيقة أن كل حزب سيجد نفسه في وضع مشابه له، سيصبح قبلة للانتهازيين الذين يفضلون عادة الرهان على الخيل الرابحة، ويحصن نفسه تجاههم.
ختاما، لا نبالغ إذا قلنا أنه يمكن للعدالة والتنمية أن يبدأ في إدارة تحالفات المرحلة الحالية مع أطراف أغلبيته الحالية والمستقبلية (الاستقلال والاتحاد الاشتراكي بعد التخلص من شباط ولشكر)!! بل وتوسيع دائرة التحالف لتشمل التمهيد لنجاحه الذي بدأت ملامحه ترتسم بوضوح في انتخابات العام المقبل البرلمانية. فالزمن الذي يفصلنا عنها غاية في القصر، بشكل يبدو من شبه المستحيل أن يحمل تغيرا في نوايا الانتخاب لدى المواطنين. كما أن المعارضة ستستغرق معظم الفترة المقبلة في مداواة جراحها ولم شتاتها (أو الخوض في شتات أكبر)، بحيث يصعب تصور قدرتها على الاستعداد الجيد للانتخابات المقبلة، إذا ما أجريت في موعدها.
الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يصعب مهمة العدالة والتنمية العام المقبل، هو خطاب وأسلوب عمل جديدين من قبل غريمه الأصالة والمعاصرة، وقدرته على صياغة تحالفات على أسس جديدة مع مختلف مكونات المشهد السياسي المغربي، لكنها عملية تحتاج من الأصالة والمعاصرة إلى بناء مؤسساتي على مدى زمني يتجاوز فترة العام التي تفصلنا عن برلمان 2016.
هذه هي السياسة، لعبة النفس الطويل، والبناء المتأني للتحالفات، والعمل البنّاء وسط الناس ومن أجلهم، بعيدا عن الخطابات الشعبوية والأساليب الملتوية، وإدماج للشباب وتوظيف لطاقاتهم الخلاقة في العملية السياسية، وسيكسب لا محالة كل من يتقن هذه الأصول. والمغاربة عادة مشهود لهم بالباع الطويل في سباقات المسافات المتوسطة والطويلة، وحبذا لو تعلم سياسيوه الدرس!!