كثرت في المدة الاخيرة في إسبانيا، تساؤلات عن مدى نزاهة القضاء واستقلاله عن السلطة السياسية التي تجد نفسها، كما في مجتمعات اخرى ، مضطرة للتدخل المباشر او بالاشارة على القضاة لكي يراعوا حساسيات ملفات معروضة على انظارهم ، قد تكون ذات انعكاسات على مصالح البلاد .
وكان الاتهام الاخير الذي اصدره قاضي المحكمة الوطنية ، بابلو روث، بمتابعة 11 مسؤولا امنيا مغربيا على خلفية مزاعم ارتكاب إبادة في الصحراء خلال سنوات 1976 /1991.كان مناسبة لتجدد النقاش وعلى نطاق واسع ، في المحافل القانونية والاعلامية .
وكان المغرب اعتبر الاتهام باطلا في بيان رسمي ، ليس لتقادمه فقط وإنما لاستناد الملف على معطيات مغرضة حركتها جبهة البوليساريو ، في توقيت خاص ولأهداف معروفة لها صلة بنزاع الصحراء .
ويتضح من الجدل المثار والمتصل بأخلاقيات المهنة ، ان القاضي الاسباني “روث ” محرك الاتهام ضد المغرب ، ليس مثاليا ونزيها في احكامه وقراراته ، كما قد يتوهم البعض، بل ربما تعرض بدوره لضغوط ما من السلطة السياسية ،لتحريك ملفات والتستر على اخرى او ارجائها ، حتى ولو تعارض ذلك مع قناعاته وضميره المهني.
وفي هذا السياق ، أشارت تعليقات صحافية الى ارتباط القاضي ” روث” بالحزب الشعبي المحافظ الذي يرأس الحكومة الحالية . ولم يستبعد اصحاب التعليقات ،امتثال القاضي لتوجيهات السلطة، بخصوص ملفات معينة داخلية وخارجية وخاصة قضايا الفساد المالي التي كشفت التحريات الأخيرة انها متشعبة طالت مسؤولين ، من الحزب الشعبي وبدرجة اقل من الحزب الاشتراكي العمالي ، وبعضها تنظر فيها المحاكم حاليا في اجواء الاستعداد للانتخابات البلدية والاقليمية الشهر المقبل ( مايو) .
وفي كتابه الاخير ” الوحل ” El fango الصادر حديثا ، لمح مؤلفه القاضي السابق ،ًبالتسار غارثون ، الى وجود تناغم سياسي بين ” روث” الذي حل مكانه في المحكمة الوطنية ، وبين الحزب الشعبي ، دون ان يوجه له اتهاما صريحا بالرضوخ لاوامر الحزب .
ويرصد الكتاب الضخم ( 600 صفحة) ، قصص وملفات الفساد المستشري في اسبانيا والتي واجهها ،غارثون ، ومس قطاعات حيوية ؛ فقد طال الكنيسة والقضاء والاعلام والتنظيمات الحزبية ، بينما يفترض في تلك الهيئات الرقابية التصدي للفساد .
ويحمل ، غارثون ، المسؤولية للحزبين الكبيرين اللذين تناوبا على السلطة ، فقد تقاعسا ، في نظره ، عن محاربة تلك الافة الاجتماعية التي ستغير، رأسا على عقب ، المشهد السياسي في إسبانيا ،إذ ادت حتى الان الى بزوغ حزبين جديدين ” پوديموس ” و “ثيودادانوس” يزاحمان الاشتراكيين واليمين ،ما يعني نهاية القطبية الحزبية الثنائية التي هيمنت على البلاد منذ عودة الديموقراطية .
وحاول غارثون ،في مؤلفه المعتبر بمثابة ” موسوعية للفساد ” تبرئة سجله القضائي الناصع، مؤكدا انه واجه السلطة السياسية ورفض الامتثال لها ، نافيا التهم التي الصقت به وعجلت باقالته من المحكمة الوطنية وحرمانه من ممارسة وظيفة القضاء مدة 11 عاما اضطر بعدها الى امتهان المحاماة وحيث لاحقه النقد والاتهام .
وتدور الانتقادات الموجهة لغارثون ، من الخصوم والمؤيدين، حول تغليب ميوله اليسارية على النزاهة والاستقلالية ؛ فقد لوحظ انه فتح ملفات ضد ديكتاتور الشيلي ” پينوشي” وأثار ضجة اعلامية، دون ان يعامل بالمثل طغاة ومستبدين يساريين .
ويضيف المنتقدون ان غارثون خلال مساره القضائي ،اصيب بما يسمونه مرض ” شراهة الملفات ” فقد اتسمت معالجته بالصرامة الزائدة عن اللزوم والرغبة الجامحة، حد الهوس، للحصول على ما يريده من المتهمين ، فان لم يعترفوا بما يريد سماعه، يكون مأواهم السجن .
ويعود هذا السلوك المهني ، في جزء منه لمزاج غارثون الحاد والمتقلب ، فقد اصطدم بالاشتراكيين وهم في الحكم لانهم احسوا ان القاضي يسعى الى الاطلاع المباشر على ملفات فائقة السرية ، لا يتطلبها البحث القضائي الذي يجريه.
وامام رفض التعاون معه والاستجابة لنزواته القانونية ، انسحب من الحزب الاشتراكي ، ليخوض من دون مظلة سياسية معارك قضائية جلبت له الشهرة في الداخل والخارج دون المصداقية ، بدليل انه يعتبر ” قطبا ” حقوقيا في امريكا الجنوبية ؛ لكن سمعته في الخارج لم تحل دون فقدان موقعه في جهاز القضاء ببلاده .
وفي هذا السياق يلزم التساؤل عن طبيعة المقاربة القانونية الاولى التي طبقها القاضي السابق ، بشأن ملف اتهام المغاربة الذي احيل عليه اصلا عام 2007، واتضح لاحقا ان الشكوى المقدمة مليئة بالثغرات القانونية ،أجبرت ” غارثون”على وضع الملف في الرف الى ان حركه زميله ” روث” بعد حوالي ثمان سنوات.
جديد بالتذكير ان ،غارثون، حرك في ذلك الحين ملف الاتهام واعتقال الامنيين المغاربة، بعد تنقية القائمة من الترهات ؛ لكنه زار الرباط بعد مدة ،في اطار مكافحة الارهاب الدولي ،دون ان يطالب برأس الامنيين المغاربة .