الجزائر وفرنسا

محددات وضوابط تحسن العلاقة الجزائرية الفرنسية وآفاقها المستقبلية

بقلم: هيثم شلبي

في علاقة ملتبسة كالعلاقة الجزائرية الفرنسية، يمكن تسجيل مفارقة تتمثل في أنه كلما زاد مسؤولو البلدين في الحديث عن هذه العلاقات، كلما ازدادت غموضا والتباسا! وهنا، فإن محاولة رصد الملفات والمواضيع التي يركز عليها كل طرف، ربما تفيدنا في معرفة مسببات الهدوء والاسترخاء، كما الشد والتوتر في هذه العلاقة، وإن بشكل مرتبك أحيانا، يكون فيه هدف التركيز على جانب محدد، هو حرف الأنظار عن مساحة حساسة أخرى. لكن، وقبل الخوض في هذه العلاقة، من المهم الانطلاق من حقيقة موضوعية، إن نحن أردنا فهم ضوابط هذه العلاقة، ونعني هنا حقيقة أن الجزائر لم تستقل يوما عن فرنسا بشكل حقيقي، بكيفية من شأنها التأسيس لعلاقات ندية، وهو ما نجد انعكاسه في خصوصية كل ما يتعلق بالجزائر في النقاش العام الفرنسي.

في الجزائر، لطالما شكلت الأزمات الدورية مع فرنسا عنصرا ثابتا في سياسة سلطات هذا البلد، حتى في عز سنوات العشرية السوداء، عندما كان جنرالات فرنسا يحكمون بشكل مباشر، ويحكمون قبضتهم على جميع مفاصل السلطة في بلادهم. أزمات اعتاد الجزائريون فيها على ارتفاع نبرة التهجم من مسؤولي بلادهم تجاه فرنسا، بل وتحولها إلى مباراة يتسابق فيها رؤساء أحزاب النظام، من الأغلبية والمعارضة على السواء، مع مسؤولي الجزائر الرسميين، قبل أن ترتفع يد مهيمنة، تأمر بتوقف الهرج، حيث يبلع الجميع ألسنتهم!! سلوك ليس له ما يبرره سوى أن التهجم اللفظي على المستعمر الفرنسي، هي سلعة مجانية معروضة في سوق الوطنية، لا يوجد فيها ما يؤذي مشاعر أو مصالح الفرنسيين حقيقة، لذا فهم متساهلون بشأنها. هذا المشهد العبثي الذي لم يعد ينطلي على أحد، يتيح لأبواق النظام، داخل وخارج الجزائر، ممارسة المزايدة والترويج للطبيعة الثورية للنظام “الوطني” في “مكة الثوار” التي يحكمها “أبناء شهداء جيش التحرير!!!” رغم علم القاصي والداني بزيف هذه المقولة. وعليه، وكلما سمعنا الإعلام الجزائري، ومرتزقته في الخارج يرفعون عقيرتهم بشتم فرنسا، نعلم أن هناك قضية هامة يحاول مسؤولو البلدين تمريرها، دون رغبة في لفت الانتباه إليها.

وهنا، لعل أزمة الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء تصلح كمثال على ذلك، بعرضها في مشاهد سينمائية متتالية: المشهد الأول كان في إيطاليا على هامش قمة الدول الصناعية السبع، حيث وجه ماكرون الدعوة لتبون في آخر لحظة بما يشبه الاستدعاء، لنجد الرئيسين في حالة من “الرومانسية” فضحتها ابتسامات الرئيس الجزائري دون ان نفهم ما يسبب له حالة الانتشاء هذه. المشهد الثاني، بلاغ للخارجية الجزائرية يهاجم القرار الفرنسي المنوي صدوره بالاعتراف بمغربية الصحراء، وهي السقطة الدبلوماسية التي أتت من سلطات “هاوية” على كل حال. الغريب أن البيان قال أن الرئيس تبون أخذ علما بالقرار الفرنسي من فم الرئيس ماكرون خلال اجتماعهما في إيطاليا، وفي خضم “شهر العسل”، فما الذي في القرار مما يبرر حالة النشوة التي بدا عليها الرئيس تبون ساعتها؟! المشهد الثالث، تصعيد لفظي مماثل عندما عبرت فرنسا عن موقفها الجديد في المغرب، وهي تعلم أنه قرار سيادي لدولة ليس هناك أدنى فرصة لتراجعها عنه. المشهد الرابع، الرئيس الجزائري، وبكل “وقاحة” واستخفاف بعقول الجزائريين، يصرح لوسائل إعلام نظامه بأنه لا مشكلة لدى الجزائر في الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء!! تصريح ينسجم كليا مع المشهد الأول، ويتناقض بشكل فج مع المشهدين الثاني والثالث. ليأتي المشهد الأخير، والذي لحس فيه رأس النظام الجزائري “المدني” جميع عنترياته خلال مكالمة مع الرئيس ماكرون في العيد؛ فأي المشاهد يعبر أفضل عن حقيقة العلاقة الجزائرية الفرنسية من وجهة نظر مسؤولي الجزائر؟!

في فرنسا، يلاحظ أن هناك خطابين متناقضين ظاهريا، وإن ساعد التدقيق فيهما في إزالة هذا التعارض. فقد درجت تصريحات المسؤولين الجزائريين على اعتبار أن مشكلتهم تنحصر فيما يسمونه “اليمين المتطرف”، وأنه لا مشكلة حقيقة لديهم مع “فرنسا الرسمية”. وهنا نتساءل: هل استخدام اليمين للهجة “خشنة” تجاه الجزائر، في مقابل اللهجة “الناعمة” التي يستخدمها مسؤولو الحكومة ورئيسهم ماكرون، دليل على اختلاف مقاربات الطرفين، أم أنها اختلافات لفظية لا تشوش على اتفاقهما في العمق؟ نميل إلى الخيار الثاني، وذلك لجملة من الأسباب. اول هذه الأسباب أن يمينية ماكرون وأركان حكومته كدارمانان وغيره، لا تقل بحال عن يمينية لو بان وبارديلا. أضف إلى ذلك أن سياسات فرنسا الرسمية تجاه الجزائر تحديدا، والعرب والمسلمين عموما، تلقى أكبر قدر من التوافق بين الحكومة ومعارضيها، عكس مواقفهما المتناقضة من ملفات أخرى، كالعلاقة مع أوروبا أو غيرها. لذا نستطيع القول، أن النبرة العالية التي يستخدمها اليمين “المتطرف” الفرنسي، تجاه النبرة العالية لنظرائهم في الجزائر، هي تعبير عن الاحتجاج على السياسة الرسمية التي تتجاهل هذه التصريحات، بل وتسمح بها في أحيان كثيرة. فخلاصة الخلاف أن اليمين الحكومي يأخذ ما يريد من سلطات الجزائر “بدبلوماسية”، مقابل السماح لها بهامش من “العنتريات الوطنية”، مقابل مطالبة اليمين المعارض بأخذ هذه المكاسب بالقوة، دون أن يسمح لها بالتفوه بلفظة احتجاج، وذلك انسجاما مع جمهور كل واحد من القوتين.

لذا، فالغبار المثار حول “معارك” الذاكرة، والتهديد “الأجوف” بتجريم الاستعمار، والمطالبة “المثيرة للشفقة” بجماجم الشهداء وسيف الأمير عبد القادر، كلها محاولات بائسة تهدف إلى حرف أنظار الشعب الجزائري عن بيع مقدرات الوطن لمستعمريها القدماء- الجدد، وتكديس الثروات الناجمة عن هذا النهب لفائدة الحسابات المنتفخة “لأبطالهم أعداء فرنسا”، وفي بنوك فرنسا نفسها للمفارقة!! وليس أدل على ذلك من أن “أبطال” النظام الجزائري غيروا لهجتهم بمقدار 180 درجة بمجرد أن فرضت التأشيرة الفرنسية عليهم، ولم تعد جوازات سفرهم الدبلوماسية كافية من أجل إدخالهم إلى فرنسا، لمتابعة عقاراتهم وأموالهم التي اكتسبوها من مص دماء الجزائريين، فقاموا بالعودة إلى بيت الطاعة الفرنسي، وعيونهم في الأرض.

كخلاصة، فإن أي أمل بقدرة حكام الجزائر الحاليين، مدنيين وعسكريين، على رفع رؤوسهم أمام فرنسا هو حلم لا حظّ أمامه بالتحقق، لأنهم جزء من الجهاز الوظيفي الذي زرعته فرنسا منذ قررت منح الاستقلال الصوري للجزائر. وعليه، فإن الهم الأكبر “لوكلاء فرنسا” في الجزائر هو استدامة بقائهم في كراسيهم، واستمرار نهب ثروات الجزائر ومراكمتها في بنوك فرنسا، انتظارا للحظة يدركون أكثر من غيرهم بأنها آتية، وأقرب مما يخشونه، لحظة غرق مركب النظام، وما سيتلوها من فتح حسابات النهب المستمر منذ أكثر من ستة عقود، وهي لحظة يجب أن يكونوا مستعدين لها دائما، للقفز من المركب الغارق في الجزائر، بحثا عن الأمان في شواطئ فرنسا!