بقلم: هيثم شلبي
كعادته، خرج الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على مواطنيه في إطار “حواراته الإعلامية الدورية”، ليأخذ ساعة و46 دقيقة من وقتهم، دون أن يهتم بقول شيء ذي قيمة لمحاوريه من “موظفيه” ممثلي الإعلام الرسمي، اللهم اجترار نفس الشعارات الفارغة من المضمون، داخليا وخارجيا، تحسبا لأن يكون الجزائريون قد نسوها، على الرغم من تكرارها على مسامعهم منذ 2019!!
وبسبب خلوه من المعلومات المفيدة، للمواطنين داخليا، ومتابعي الشأن الجزائري خارجيا، يمكن استعراض الحوار الذي استمر لساعات قبل أن يختصر في مرحلة التوضيب (المونتاج) إلى أقل من ساعتين، في بضع سطور، تأخذ شكل تساؤلات، لم يجرؤ محاورو الرئيس -أو لم يهتموا- بطرحها، كونها خارج الترتيبات المسبقة للحوار، منعا لإحراج الرئيس. ولنبدأ بالشأن الداخلي؛
لقد بشر الرئيس تبون بما تحول إلى “مانشيت” في صحف اليوم الموالي، بعقد “حوار وطني”.. بعد أقل من سنة من الآن!!، وهنا يحق لأي واحد أن يتساءل: ولماذا الإعلان منذ الآن عن حدث يتوقع إجراؤه بعد عام؟! هل يحتاج الحوار الوطني المقصود إلى كل هذه الفترة للتحضير؟ هل يتعلق حدوثه بأشياء لم يأت أجلها بعد؟ هل يستعصي حصر أجندة المؤتمر، وتحديد هوية مدعويه إلى كل هذا الوقت؟ أم أن هناك احداثا أهم تحظى بمتابعة الجزائريين حاليا، ويتوقع الرئيس أن تكون الفرصة أفضل لشد انتباههم مطلع العام المقبل!! الإجابة الواضحة على كل التساؤلات السابقة هي “لا” كبيرة بحجم الضجة التي ستثار حول هذا “اللاحدث” في حال إجرائه بعد عام.
المساحة التالية أفردها الرئيس تبون لمصطلح “حرية التعبير”، حيث أنه وبعد كثير من “اللف والدوران” حول البديهيات، برفض حرية التعبير عندما تصبح أداة للسب والشتم، وتشكيك في الانتماء الوطني، ومدعاة لتكدير السلم الأهلي.. الخ، قالها بعبارة صريحة: “كل من ينتقد ملف حرية التعبير في الجزائر هو عميل وطابور خامس” لجهة لم يسمها!! رغم أن الجزائريين لم يكونوا بحاجة إلى هذا الاعتراف الفج والغامض والمعمم، حيث أن الواقع يترجمه من خلال الاعتقالات التي تطال “المعبرين عن رأيهم بحرية” في بلاد الجنرالات التي تعتبر الحرية جريمة!!
ولم يفت الرئيس تبون إطلاق الشعارات والوعود “الكاذبة” التي تعتبر امتدادا وتكرار لجميع وعوده السابقة منذ 2019. فالجزائر ستحقق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب هذا العام، وربما باقي الحبوب خلال العام المقبل، وستكتفي كذلك من مادة الحليب ذاتيا بعد أن يبدأ “المشروع القطري” عمله العام المقبل، على غرار غيرها من الوعود في قطاعات المياه والكهرباء والزيوت والفوسفات والغاز ..الخ.
طبعا جميع هذه الوعود التي ساقها الرئيس لم تكن مشفوعة بأي أرقام توضح مثلا: كم يبلغ استهلاك الجزائر من القمح الصلب؟ وكيف ستتم تغطيته بالكامل هذا العام؟ وكم يستهلك الجزائريون من الحليب حتى يمكن القول أن المشروع القطري “بلدنا”، بأبقاره ال 270 ألفا سيقوم بتغطيته خلال العام المقبل؟ الموعد المفترض لبدء المشروع.
وإذا أخذنا ملف الحليب كمثال، فالحصول على رقم رسمي لاستهلاك الحليب من طرف الجزائريين هو مهمة شبه مستحيلة! فوزير الفلاحة قدره في منتصف 2023 بحوالي 45 لتر سنويا لكل مواطن، بينما قالت أرقام الوزارة قبلها بعامين أنه يتجاوز 167 لترا/ مواطن سنويا، ناهيك عن أرقام وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية التي تحصر العدد في 130 لتر/ مواطن سنويا؛ فأي هذه الأرقام هو الصحيح؟ لماذا؟ لأن من شأن تقدير الاستهلاك السنوي للفرد الواحد أن يحدد الحاجات السنوية ل 47 مليون مواطن (حسب الإحصائيات الرسمية)؛ فهذه الحاجات تتراوح بدورها ما بين 1.7 مليار لتر التي حددها الوزير المكلف منتصف 2023 تحت قبة البرلمان، و 4.5 مليار لتر التي نشرتها الوزارة قبل أيام، مرورا برقم “رسمي” آخر هو 3.5 مليار لتر، ورقم رابع عن جمعية مربي الأبقار حصر الاحتياجات في 6 مليارات لتر سنويا!!
الغريب أن هذه الأرقام، وغيرها، من قبيل عدد الأبقار الحلوب في الجزائر، نجدها مشابهة بشكل غريب للأرقام الواردة في الإحصائيات الرسمية عام 2013!!
وكأن الزمن لا يتحرك في الجزائر، على الرغم من أن عدد الجزائريين ساعتها حصرته الدولة في 37 مليون مواطن!! فقد حددت القطيع الوطني في 900 ألف بقرة حلوب، وهو نفس عددها اليوم؛ وإنتاجية هذه الأبقار هي في حدود 10 لترات يوميا (المعدل الطبيعي 40-60 لتر يوميا)، سابقا وحاليا؛ والحاجة لتحقيق الاكتفاء الذاتي كانت منذ عشر سنوات وإلى اللحظة، مرهونة بالتوفر على مليوني بقرة حلوب!! طبعا تغذية هذه الأبقار تحتاج إلى زراعة قرابة 700 ألف هكتار من الكلأ، لا يتوفر نصفها حاليا.
هذه المتاهة من الأرقام، تبرر كون الجزائر (حسب الإحصائيات الرسمية دائما) هي المستورد الخامس عالميا لمادة الحليب (البودرة المجففة تحديدا)؛ فكيف يمكن لهذا الواقع أن يتحول إلى حالة الاكتفاء الذاتي خلال عام؟! الله والرئيس تبون فقط من يعلم الإجابة!!
وبالانتقال إلى القضايا الخارجية، فلم يكن أداء الرئيس تبون أفضل، حيث نفس الشعارات الفارغة والمعطيات المتناقضة التي لا تجد من ينبه إليها. فتعبيره عن الارتياح لعودة العلاقات الجزائرية الإسبانية إلى طبيعتها بعد فترة فتور، لم يستتبعه أي تساؤل حول الأسباب التي أخرجت أصلا هذه العلاقات عن طبيعتها، وأدت بها إلى الفتور؟ وما هي الأشياء التي تغيرت في السلوك الإسباني حتى أدت إلى هذه العودة للمسار الطبيعي بين البلدين؟ أم أن الجزائر هو الذي اكتشف بأن “غضبته المضريّة” على جار الشمال لم تكن مبررة، وبالتالي “لعن الشيطان” ورجع إلى جادة الصواب؟
نفس التساؤلات وإن بشكل أكثر كثافة تحيط بما عبر عنه الرئيس تبون من مواقف تجاه فرنسا. فماذا يعني أن يعتبر الرئيس تبون أن الخلاف الجزائري الفرنسي “مفتعل بالكامل”؟! والسؤال الوحيد الممكن هنا: من الذي افتعله؟!
وبعيدا عن الاعتبارات المضحكة للرئيس تبون، التي تقول بأن فرنسا الرسمية يمثلها الرئيس ماكرون، وبدرجة أقل وزيره في الخارجية، نافيا هذه الصفة عن رئاسة الوزراء ووزير الداخلية!! فكيف سيزيل الرئيس تبون ما أسماه “سوء الفهم” مع الرئيس الفرنسي ماكرون؟ هل سيتراجع عن مواقفه المسجلة في اعقاب الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء، كما حدث مع إسبانيا مؤخرا؟ أم أن لغة التصعيد التي استخدمتها الحكومة الفرنسية “الرسمية” مع الجزائر هي التي ستدفع سلطات هذه الأخيرة للتراجع عن “عنترياتها” المعتادة، والنزول عن شجرة التوتر مع كل من يعترف بمغربية الصحراء، إذا كان إلى ذلك سبيلا؟!
وختم الرئيس تبون هذا المحور “بكذبة باينة” على رأي الفنانة الشعبية نجاة اعتابو، عندما قال: “فرنسا والمغرب يتفقان جيدا وهذا أمر لا يزعجنا، إلا أن المشكل يكمن في طريقة التباهي تلك، فهي تضايق الأمم المتحدة والشرعية الدولية”!! وهي عبارة لا تحتاج إلى أي تعليق!!
وختم الرئيس تبون المحور الخارجي بترداد الشعارات “الكاذبة” نفسها التي تتعلق بوقوف الجزائر مع وحدة القارة الأفريقية، لأن واقع علاقته بجواره تنافي هذا الشعار جملة وتفصيلا. فلا ندري كيف يعزز قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق الحدود مع المغرب من وحدة القارة؟ وكيف تساهم خلافات الجزائر الحدودية مع ليبيا وتونس في مثل هذه الوحدة؟ وكيف يؤدي سلوك سلطاتها المهين للمهاجرين جنوب الصحراء، الذين يرمون في الحدود الصحراوية مع النيجر، إلى مثل هذه الوحدة؟ وكيف يقود دعم ميليشيات شرق الكونغو إلى خدمة هذا الهدف؟ وأخيرا، كيف تؤدي محاولة اغتيال الرئيس الموريتاني داخل الجزائر، ودعم ميليشيات مالي الانفصالية إلى وحدة دول القارة؟!!
وهنا أيضا (في الملف الخارجي) أصر الرئيس تبون أن يختم حديثه بكذبة صارت مثار سخرية من تابعوا اللقاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي: هناك طرف ثالث ينشر الأخبار الكاذبة التي تؤدي إلى تأزيم علاقة الجزائر بجيرانها في مالي والنيجر!! فلو تجاوزنا إشارته المعتادة للمغرب على انها “الطرف الثالث” الأزلي الذي لا هم له إلا إيقاع الأذى بالجزائر، كيف يتهم بمثل هذه الخفة سلطات بلدين جارين بأنهما يبنيان مواقفهما السياسية على “أخبار كاذبة”؟! هل يفتقدان إلى مؤسسات تحسن قراءة السلوك الجزائري تجاههما؟ وهل يحتاج عاقل لدليل خارق من أجل الحكم على سلوك المخابرات الجزائرية وباقي أجهزة النظام الجزائري بأنه فاسد ومؤذي للجوار القريب والبعيد؟! وما زال وجود مرتزقته وضباطه أسرى في سجون سوريا بسبب دعمه لطاغية سوريا بشار الأسد، مثالا صارخا على تهافت شعار “دعم النظام الجزائري الوطني لتحرر الشعوب من أنظمتها المستبدة”!!!
ختاما، واضح أن استمرار هذه اللقاءات “الهزلية” لا تلبي مصلحة داخلية، ولا حاجة خارجية؛ وأن الدافع الوحيد لاستمرارها لا يتجاوز أحد أمرين: رغبة داخلية دفينة في الرئيس تبون، منذ كان وزيرا للإعلام في بدايات حياته الرسمية، في الإسهاب في الحديث لوسائل الإعلام والظهور في صدارة الأخبار؛ أو تكليف خارجي من قبل الجنرال شنقريحة للتعبير عما يود الحنرالات قوله للجزائريين. وأيا كان المبرر أو الدافع، فإن الواقع يقول بأن الفائدة الوحيدة المتحققة من وراء هذه اللقاءات الإعلامية “الدورية” هي مزيد من السخرية من الرئيس تبون، والسخط من الجنرالات الذين يوجهونه!!