هيثم شلبي
مشهد مليء بالتناقض، ذلك الذي يأتينا من العاصمة الجزائرية بخصوص التطورات الأخيرة التي تشهدها قضية الوحدة الترابية المغربية، لاسيما في أعقاب رفض المحكمة الأوروبية استئناف المفوضية الأوروبية للحكم الابتدائي القاضي بتمييز منتجات الصحراء المغربية الواردة إلى أوروبا عن مثيلتها المغربية، والحد من إمكانية شمول اتفاق الصيد البحري المنتهي لسواحل الصحراء المغربية، وهما الحكمان اللذان جاء الرد المغربي “الرصين” عليهما، باعتبارهما شأنا أوروبيا خالصا، ليحول الحفلة الصاخبة للإعلام الجزائري إلى فوضى وصراخ لم يهدأ حتى اللحظة. فما الذي يجعل النظام الجزائري وإعلامه ينتقلون من موقع الاحتفال إلى موقف التنديد والخوف، من شأن أوروبي خالص -كما وصفه المغرب-؟!
مفهوم أن النظام الجزائري، وفي ظل توالي الانتصارات الدبلوماسية المغربية، والمتمثلة في تزايد الاعترافات الأوروبية والأفريقية بمغربية الصحراء، صراحة أو عبر اعتماد مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية حلا وحيدا، يحس (أي النظام الجزائري) بقرب كتابة الفصل الأخير لهذا النزاع المفتعل، أمميا ودوليا، نتيجة اعتماد المقاربة المغربية لحله. وعليه، لم يعد أمام الدبلوماسية الجزائرية سوى البحث عن انتصارات “مجهرية”، لا يتفق مع اعتبارها انتصارات سوى الإعلام الجزائري نفسه، من قبيل تأمين “كرسي” يجلس فيه مندوب البوليساريو في اجتماع دولي هنا أو هناك، بدل البقاء واقفا خارج القاعة، أو تأمين تسلل إبراهيم غالي إلى غرفة نوم الأمين العام للأمم المتحدة في فندق بتيمور الشرقية، لالتقاط صورة تبقيه في دائرة الفعل أمام الغضب الذي يغلي في مخيمات الاحتجاز في تندوف، وغيرها من الأحداث الهامشية التي لا يدلل على هشاشتها سوى المبالغة في احتفاء الإعلام الجزائري بها. وفي هذا السياق، جاء حكم المحكمة الأوروبية ليمنح للإعلام الجزائري فرصة تصويره على أنه “فتح مبين”، كما لو أنه سيعيد قضية الصحراء إلى سنوات الثمانينيات!! لكن رصانة الرد الدبلوماسي المغربي، سرعان ما وضعت حكومات القارة الأوروبية، والسلطات التنفيذية للاتحاد الأوروبي أمام مسؤولية حماية مصالحها المشتركة مع المغرب، وبالتالي ساهم “شلال” البيانات الأوروبية، الجماعية والمنفردة، المؤكدة على متانة واستراتيجية العلاقات المغربية الأوروبية، في سكب “خزان” -وليس مجرد سطل- من الماء المثلج على حكم المحكمة الأوروبية، والمحتفلين به في الجارة الشرقية للمغرب!!
إن تأكيد جميع دول القارة تقريبا، في بيانات منفردة، على أهمية العلاقة مع المغرب، جعلت الرعب -حرفيا- يدب في أوصال النظام الجزائري! حيث إنه بدلا من أن يدفع حكم المحكمة الأوروبية دول الاتحاد الأوروبي للنأي بنفسها عن المغرب، كما كان النظام الجزائري يروج ويمني النفس، تحول “العرس المزيف” إلى مأتم في الجزائر، بسبب الإجماع الأوروبي على النأي بدوله عن حكم المحكمة لصالح العلاقات الاستراتيجية مع المغرب!! وهو الموقف الذي صاغته في النهاية المفوضية الأوروبية على لسان رئيستها أورسولا فون دير لاين، ومفوض علاقاتها الخارجية جوزيب بوريل، والذي لا يعدو كونه ملخصا وعاكسا لحالة الإجماع الأوروبي على استراتيجية العلاقة مع المغرب. موقف أوروبي ليس فيه أي مفاجأة، لمن يمتلك الحد الأدنى من الفهم للسياسة الدولية عموما، والأوروبية بشكل خاص. فمصالح الغرب عموما، والدول الأوروبية من بينها، لها الأولوية على أي بعد حقوقي او قانوني أو إنساني. كما أن موقفها “المنحاز” للمغرب، ضد الرغبة الجزائرية، يعكس بوضوح حجم العمل الدبلوماسي الجبار الذي قام به المغرب على مدى العقود الماضية، من أجل امتلاك أوراق تفاوضية قوية تضمن مصالحه أمام الدول الأوروبية، في مقابل رهان النظام الجزائري منتهي الصلاحية على ورقة يتيمة، الغاز!! ورقة وإن كانت مهمة في لحظات معينة كالتي تعيشها أوروبا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، فإنها ليست كذلك في باقي المراحل، ناهيك عن كونها ورقة تكاد أهميتها تقتصر على الشريك الاقتصادي الوحيد للجزائر، إيطاليا!! في المقابل، نجح المغرب في نسج علاقات متشابكة، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا وعسكريا واجتماعيا، لم تقتصر على كبار القارة الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا)، بل تعدتها إلى دول شرق ووسط القارة صغيرها ومتوسطها وكبيرها! وشتان بين هذه المقاربة متعددة الأبعاد، ومقاربة النظام الجزائري الفاشل المعتمدة على شريك وحيد بمورد وحيد هو الغاز!
إن العصبية الزائدة التي تعاملت بها الخارجية الجزائرية مع شلال البلاغات الصحفية الأوروبية المؤكدة على استراتيجية العلاقة مع المغرب، بدعوتها سفراء هذه الدول الاوربية لإبلاغهم احتجاجا هو فضيحة دبلوماسية بحد ذاته! إذ كيف يكون مقبولا في السياسة الدولية، أن تقوم الخارجية الجزائرية بتحذير السفراء الأوروبيين من عدم احترام دولهم لمضمون حكم المحكمة الأوروبية؟!! هل أصبحت الجزائر وصية على سلوك الحكومات الأوروبية، ومدى احترامها من عدمه لقرارات الهيئات الأوروبية المختلفة؟!
ختاما، يدرك النظام الجزائري ودبلوماسيته أنه يخوض صراعا خاسرا مع المغرب على صعيد المجتمع الدولي، لأن مكانة هذا الأخير (المغرب) دوليا، تم التأسيس لها بشكل متين على الصعيد العربي والأفريقي، ثم انتقلت إلى المستوى الإسلامي فالدولي، عبر علاقات يتشابك فيها السياسي بالاقتصادي، والأمني بالاجتماعي، والثقافي بالروحي، مستخدمه قواها الصلبة والناعمة، في الوقت الذي راهن فيه جنرالات الجزائر، عديمي الأهلية العقلية والمعرفية قبل الأخلاقية والسياسية، وفاقدي المشروعية محليا قبل أن يكون إقليميا، على شراء ذمم بعض مسؤولي قارتي أفريقيا وأمريكا اللاتينية من أجل تامين زخم “عددي” يسهم في إبقاء هذه القضية في أروقة الأمم المتحدة، بما يبرر المتاجرة بها. لكن، ومع مراجعة التطورات التي حصلت خلال نصف القرن الماضي التي هي عمر هذا النزاع المفتعل، يدرك من يمتلك حدا أدنى من الفهم أن أوان إقفاله قد حان، لأن استمرار فتحه لم يعد يخدم هدف ابتزاز المغرب سياسيا واقتصاديا، ولا يمكن أن يفيد كثيرا في ابتزاز الجزائر، وعليه وجب إقفاله للتحول إلى ملفات أخرى في مناطق مختلفة من العالم. حقيقة يجب على جنرالات الجزائر، وأجنحة نظامه المختلفة، سرعة إدراكها والبدء في التعامل معها، طالما هناك من هو مستعد لدفع أي ثمن في “ورقة البوليساريو” المحروقة، قبل أن يتسبب شررها المتطاير في حرق النظام الجزائري برمته!!