بقلم: هيثم شلبي
على بعد قرابة ستة أشهر من الموعد الجديد للانتخابات الرئاسية الجزائرية، تجد الآلة الدعائية للنظام الجزائري عموما، والمساندة للرئيس عبد المجيد تبون على وجه الخصوص، نفسها في ورطة، تتمثل في خلو سجل الرئيس من أي إنجاز أو اختراق يذكر، رغم مئات الملايين التي صرفت -دعائيا- على العديد من الرهانات الفاشلة للنظام العسكري وواجهته المدنية، من قبيل احتضان قمة “لم الشمل العربي” التي غاب عنها معظم الزعماء العرب، وكانت فترة رئاسة الجزائر لها الأقصر بين كل الرئاسات السابقة؛ وخرافة الانضمام لتجمع البريكس، التي كانت بمثابة “الرهان الأكبر” للنظام العسكري وواجهته الرئيس تبون، وانتهى بصفعة مدوية، وتحديدا على لسان “الصديق الأكبر” وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف؛ ورهان القطع مع تكرار الحرائق التي تشتعل كل عام، والتي عجز الرئيس تبون وحكومته عن شراء بضع طائرات لإطفاء الحريق على مدى ولايته كلها، من أجل صون أرواح وأموال الجزائريين؛ وتحدي احتضان كأس أفريقيا لكرة القدم لعام 2025 ضد المغرب تحديدا، والذي أهدرت في سبيله استثمارات مليارية على بنية تحتية كارثية، وكانت النتيجة الصادمة أن المغرب لم يكتف بشرف الفوز بتنظيم البطولة الأفريقية، بل وحاز على شرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2030 بمشاركة إسبانيا والبرتغال؛ والكثير الكثير من الرهانات الفاشلة التي كان إعلام النظام الدعائي يقلب صفحتها سريعا، ليبحث عن “كارثة” وإخفاق جديد!!
ضيق الوقت المتبقي للانتخابات، لم يترك لإعلام الرئيس الجزائري سوى الحديث عن “صولات” الجزائر في مجلس الأمن نصرة لإسرائيل أو غزة، لا فرق!! حيث أتى الإنجاز الوحيد لها متمثلا في قرار وقف إطلاق النار -في رمضان- لأقل من أسبوعين، مقابل مطالبة حماس -منفردة- بإطلاق سراح جميع السجناء الإسرائيليين الذين في يدها، دون مقابل!! ولأن الواقع يكذب كل حديث عن وجود أهمية تذكر للجزائر أو لغيرها من الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، تفتقت عبقرية الرئيس الذي يصفه خصومه بأنه “يكذب أكثر مما يتنفس” عن محاولة اختراع بديل لاتحاد المغرب العربي، الذي قامت الطغمة العسكرية الحاكمة، وبأوامر مباشرة من سيدها الفرنسي، بتجميده رسميا منذ عام 1994، عندما قامت بإغلاق الحدود مع المغرب، وقطعت أواصر التواصل الإنساني والتجاري بين جناحي الاتحاد (ليبيا وتونس عن المغرب وموريتانيا). وهكذا، وبعد ثلاثة عقود من التجميد، شكل لقاء ثلاثي بين الرئيس تبون والرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي فرصة لإعلام الجنرالات للبدء في الحديث عن اتحاد مغاربي جديد بدون المغرب، سرعان ما ستنضم إليه موريتانيا وفق أقوالهم، مع تكفل وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف باعتبار الإطار الجديد يأتي “لسد الفراغ المتمثل في شلل اتحاد المغرب العربي، وليس بديلا عنه”، دون أن يكلف نفسه طبعا، عناء تحديد من الذي تسبب في حالة الشلل هذه. لكن، هل تملك الجزائر صناعة وقيادة مثل هذا الإطار المغاربي؟
بداية، يبدو أن النظام العسكري في الجزائر مستمر في ممارسة هوايته في “إعادة تعريف ما هو معرّف”، والتعامل مع الواقع الافتراضي الذي يحبذونه، بدل الواقع الحقيقي الذي لا يناسبهم. من هنا، أمكن للرئيس تبون أن يتبجح سابقا “بكل وقاحة” بأن الجزائر تمثل بالنسبة للقارة الأفريقية ما تمثله الصين للعالم!! وبنفس الخفة، أعطى لنفسه الحق في اعتبار أن المنظومة الصحية لبلاده هي الأفضل قاريا، خلافا لجميع الإحصائيات الأفريقية والدولية! وهكذا، يعيد النظام الجزائري تعريف الاتحاد المغاربي بأنه مجرد عقد قمة تشاورية بين رؤساء هذه الدول بشكل ربع أو نصف سنوي، حتى نستطيع القول بأن وحدة سياسية واقتصادية وأمنية تجمع هذه الدول! أما واقع التجمعات الإقليمية في مختلف جهات القارة فيقول بأن الوصول إلى تشكيل إطار إقليمي يحتاج إلى ما هو أكثر من التعريف الجزائري بكثير، حيث تفتح الحدود أمام حركة الأشخاص والبضائع، وتزال الحواجز الجمركية والضريبية، مرورا بتحقيق توافق على سياسة مشتركة تجاه القضايا المحلية والإقليمية، وتنسيق أمني وتظاهرات مشتركة من مختلف الأصناف، وصولا إلى تحقيق عملة موحدة، برلمان مشترك، قوة عسكرية مشتركة، ونوع من أشكال الوحدة السياسية الكونفدرالية بين هذه الدول. فهل لقاء تبون وسعيد والمنفي يلبي هذه التطلعات وينسجم مع هذه المواصفات؟!
نقطة أخرى تحكم بالفشل المسبق على هذا الإطار، تخص سؤال المشروعية التي يتمتع بها الرؤساء الثلاثة. فتبون الذي اختاره العسكر ليكون واجهة لنظامهم، خرج الشعب الجزائري برمته مطالبا بإسقاطه، وهو نظام لا يزال مستمرا ضد الإرادة الشعبية، عبر السجون والمعتقلات والقمع الممنهج لأي مطالب سياسية أو حقوقية أو اجتماعية. نفس الأمر ينطبق على الرئيس التونسي قيس سعيد الذي يواجه رفضا شعبيا جارفا بعد “انقلابه” على التجربة الديمقراطية التونسية، وهو ما بدا واضحا من نسبة المشاركة الشعبية شديدة التدني، في جميع الاستشارات الانتخابية التي أقامها بهدف اصطناع شرعية بديلة! أما نظيرهما الليبي فيرجع سؤال مشروعيته إلى فوضى المشهد الليبي، الذي يعرف أكثر من مرجعية سياسية واقتصادية، تعبر عن نفسها في وجود أكثر من جيش (أو ميليشيا)، وأكثر من حكومة، وأكثر من برلمان، مع أكثر من مركز قوة موزعة على مختلف المناطق الليبية، وبالتالي فالمنفي لا يمكن بحال اعتباره “رئيسا” لليبيا، في وجود حكومات وأجهزة وميليشيات وبرلمانات تنافسه على الحكم والتأثير، بل أن هناك شبه إجماع على أن المنفي ومجلسه الرئاسي، الذي لا يمتلك ميليشيا ولا وزراء ولا نواب، هو أضعف الأطراف الليبية!
ثالث العوائق التي تكشف أن اتحاد الجزائر “المغاربي” البديل، ما هو إلا “فنكوش” على رأي إخواننا المصريين، يعود إلى هزالة التبادلات التجارية بين الدول المشكلة له، فباستثناء صادرات جزائرية لتونس بلغت 1.5 مليار دولار عام 2022، وواردات من نفس البلد بلغت قرابة 330 مليونا، فإن صادرات الجزائر لليبيا تراوح الصفر دولار!! أما موريتانيا، وعلى فرض رضوخها لابتزاز الجزائر والانضمام إلى هذا “الإطار التشاوري”، فالجزائر تصدر لها ما يزيد قليلا عن 80 مليون دولار، وتستورد منها ضعف هذا المبلغ. أضف إلى ذلك أن اقتصادات هذه الدول شديدة التشابه، وتعتمد أساسا على الموارد الطبيعية، وتحديدا النفط، مع ضعف عام للصناعة والخدمات، الأمر الذي يجعل من سقف الطموح بشأن تكاملها الاقتصادي شديد التواضع والانخفاض. ولعل أبلغ تعبير عن هذه الحقائق هو تدشين تونس وليبيا لمشروع واعد يتعلق بالربط المينائي بين موانئ طرابلس وتونس وطنجة (مع استثناء موانئ الجزائر!!) من أجل تعزيز التجارة بين البلدان الثلاثة، والتغلب على عقبة إغلاق الجزائر لحدوده مع المغرب، بما يمنع حركة الشحن البري.
ختاما، فلا يمكن لحملات العلاقة العامة، والابتزاز، والتهديد، أن تصنع وحدة، لا سيما مع نظام يقوده جنرالات فرنسا، المناوئين لجميع أشكال التنسيق والتعاون والتكامل؛ ناهيك عن كون الذاكرة الليبية والتونسية لا تزال تختزن “سطو” فرنسا، ومن بعدها حكام الجزائر، على أجزاء واسعة من أراضيهم، ورفض الجنرالات الذين تعاقبوا على حكم الجزائر مناقشة إعادة “هدايا الاستعمار المسمومة” لأصحابها، من أجل التأسيس لوحدة حقيقية تتجاوز منطق الحدود أصلا. جميع العناصر السابقة وغيرها، تجعلنا في غنى عن الاستعانة بخبراء سياسيين واقتصاديين للحكم على مستقبل هذا الاتحاد المغاربي “المسخ” بالفشل، وبأنه لا يعدو كونه دعاية انتخابية مبكرة للرئيس الجزائري الفاشل تبون، في سعيه لنيل تزكية العسكر من أجل نيل عهدة ثانية، سيتحفهم فيها بعشرات المشاريع الفاشلة من هذه الشاكلة!