بقلم: هيثم شلبي
يوما بعد آخر، تتبدى أوجه وعمق أزمة النظام الجزائري مع محيطه المباشر، بدءا من المغرب، ومرورا بمالي وانتهاء بباقي الدول التي لديه معها حدود مباشرة، لاسيما في منطقة الساحل. ورغم اجتهاد أبواق الدعاية الجزائرية في محاولة “ترقيع” هذا الواقع المهلهل لعلاقات الجزائر مع حواره الجنوبي؛ مرة بترداد أسطوانة اتفاق الجزائر الخاص بالأزمة المالية عام 2015، وأخرى بالتلويح بمشروع الغاز النيجيري الجزائري العابر للنيجر، وثالثة بالمشاريع الوهمية العابرة للصحراء من طرق ومنافذ بحرية، إلا أن مستجدات الواقع المتسارعة تفشل هذا المساعي، وتفضح الحقيقة العارية: تأزم العلاقات الجزائرية مع دول الساحل، وعلى رأسها مالي، وتخبطها في كيفية معالجة هذه الأزمات، وتغيير هذا الواقع الخطير.
من المفيد بداية توضيح أن الموقع الهام الذي لطالما تغنى جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، باحتلالهم له في منطقة الساحل، يرجع إلى الحقبة التي كانت فيها مقاليد الحكم في هذه الدول في يد “دكتاتورات فرنسا” وأزلامها كالرئيس باه نداو في مالي، ونظيره محمد بازوم في النيجر وغيرهما، قبل أن تتوالى موجة الانقلابات في دول الساحل بدءا من 2021، لتغير الواقع في كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر، لتكون أهم نتائج هذا التغيير هو انتهاء النفوذ الفرنسي في هذه الدول، بطرد أزلامها عن سدة الحكم، والطلب من عساكرها ودبلوماسييها بمغادرة المنطقة. ولعلم جميع الأنظمة الجديدة بطبيعة العلاقة بين فرنسا وجنرالاتها في الجزائر، وأنهم لا يعدون أن يكونوا “موظفين” لدى فرنسا، ينفذون أوامرها، ويخضعون لأجندتها في منطقة الساحل والمغرب الكبير وباقي أفريقيا، فقد كان منتظرا، ومنطقيا، أن يكون خروج الجزائريين تاليا لخروج قوات المستعمر الفرنسي، لعلمهم أنهم سيتكفلون -نيابة عن فرنسا- بالضغط على هذه الأنظمة الجديدة، عبر “تنشيط” الحركات “الجهادية” والانفصالية داخل منطقة الساحل. ولأن الذكاء هو خصلة يفتقدها جنرالات الجزائر وبشدة، فبدل أن يحاولوا التظاهر بامتلاك هامش من الاستقلالية تجاه سياسة فرنسا، وأنهم حريصون على علاقات جيدة مع الأنظمة الجديدة المعادية لفرنسا، عملوا بالعكس على تأكيد تبعيتهم للإليزيه، بما ينسجم مع دورهم الوظيفي، وعملوا على استقبال الانفصاليين الماليين بشكل يحمل الكثير من الغباء والتبجح. موقف لم يكن أمام السلطات المالية من مفر سوى الاعتراض عليه وإدانته، وتصعيد لهجة الهجوم على النظام الجزائري، وصولا إلى سحب السفير المالي من الجزائر على خلفية “الأعمال العدائية التي يقوم بها النظام الجزائري ضد جمهورية مالي ووحدتها الترابية”.
وبدلا من مواجهة هذا الواقع المستجد بطريقة واقعية، اختار النظام الجزائري الهروب إلى الأمام، واللعب على وتر تهدئة الأوضاع في النيجر في أعقاب انقلابها العسكري، والظهور بمظهر المدافع عن الحل السياسي والدبلوماسي للأزمة، وتقديم نفسها كوسيط بين عسكر مالي والمجتمع الدولي. دور سرعان ما رفضه جنرالات النيجر، لنفس الأسباب التي وجهت سلوك نظرائهم في مالي: الدور الوظيفي لنظام جنرالات فرنسا في الجزائر، لا يمكن ان ينسجم مع دور الوسيط النزيه الذي يروجون له!! وبسبب الوحدة المعلنة بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، فقد كان منطقيا أن تتأزم علاقات الجزائر مع هذه الأخيرة، رغم عدم وجود حدود أو مصالح مباشرة بينهما، إذا أن العمالة لفرنسا، ومناهضة نفوذها لا يمكن أن يلتقيا!
خطوة أخرى تفتق عنها “ذكاء” رأس النظام الجنرال شنقريحة، وهي الاستجابة للخطط “الذكية” لسادته الفرنسيين، بمحاولة تأجيج الوضع داخل مالي ومنطقة الساحل، عبر تسهيل دخول مرتزقة فاغنر من ليبيا، وانتظار أن تصبح المنطقة في حال أسوأ مع الصراع المسلح متوقع الحدوث بين القوات النظامية والجهاديين “الإسلاميين” ومرتزقة فاغنر والانفصاليين الأزواد، غير أن التطورات اللاحقة أثبتت خطأ رهان فرنسا وجنرالاتها، حيث تبين لهم أنهم قاموا بإدخال “الذئب إلى قن الدجاج” بأيديهم، وسلموا روسيا مفاتيح السيطرة العسكرية على منطقة الساحل إضافة لتشاد وغينيا الاستوائية وأفريقيا الوسطى، ناهيك عن ليبيا والسودان، وأصبحت مهمة مواجهة قرابة 45 ألف مقاتل تابع لروسيا في قلب أفريقيا مهمة شاقة، ليس على فرنسا المطرودة فحسب، بل وعلى وريثتها الولايات المتحدة وحلفائها.
خطوة أخرى تفتق عنها نفس الذكاء الاستراتيجي، عبر إعلان حرب صريحة على مصالح منطقة الساحل التي اختارت أن تتلقف المبادرة المصيرية واليد البيضاء للعاهل المغربي الملك محمد السادس، بتوفير ممر لهذه الدول إلى ميناء الداخلة، واجهة المغرب الأطلسية. فقد اختار جنرالات الجزائر تجريب بعض الألاعيب الدبلوماسية الهزيلة وغير المدروسة -كعهدهم دائما- بالضغط على موريتانيا بشتى الوسائل لقطع الطريق على وصول دول الساحل للموانئ المغربية، وبالتالي تأبيد حالة عزلتهم التجارية، وهو ما بدا لدول الساحل بمثابة “إعلان حرب” على مصالحها المستقبلية وفرصها التنموية، ليكون الجواب المالي عالي النبرة، ولتقوم الدبلوماسية المغربية بإفشال هذه المحاولة بواسطة العلاقات الوثيقة مع جارتها الجنوبية، وليجد جنرالات الجزائر أنفسهم في ورطة استفزاز “مجانية”، يعلمون أنهم سيدفعون ثمنها اعترافا ماليا بمغربية الصحراء!
إن خسارة النظام المالي لعلاقاته التقليدية في منطقة الساحل، عبر تنفيذه الآلي لأوامر المستعمر السابق للمنطقة، فرنسا، يحكم على هذا البلد بالعزلة التي ستكتمل حلقاتها بحدوث انقلاب في المشهد التونسي والليبي والموريتاني، الذي سيرضخ، إن عاجلا أم آجلا، للمطلب الشعبي في جميع هذه الدول، المطالب بجعل جنرالات الجزائر يدفعون ثمن عمالتهم لفرنسا، وتجميدهم أوضاع اتحاد المغرب العربي، وتقطيعهم لجميع أواصر التواصل بين شعوب المغرب الكبير، على مدى السنوات الثلاثين الماضية. وستكون تلك الفاتورة، هي آخر ما سيدفعه جنرالات فرنسا في الجزائر، قبل أن يطردوا ويتبعوا سادتهم الفرنسيين الذين غادروا القارة الأفريقية صاغرين.
نقطة أخيرة تثير الاستغراب والسخرية في نفس الوقت، تتعلق بإصرار جنرالات الجزائر على تكرار سياستهم العدائية تجاه المغرب مع دول الساحل، وتستغرب بالمقابل أي احتجاج من هذه الدول على ذلك. فالنظام الجزائري لا يزال مصرا على سرديته المتهافتة التي تؤكد أن استضافته لمرتزقة البوليساريو، ودعمه لجهود انفصال الصحراء المغربية عن وطنها الأم، هو من باب “دعم تقرير المصير” ولا يتناقض مع ودية العلاقات التي تريدها مع المغرب، وتستغرب استياء المغرب من دعمها لحركة انفصالية مسلحة تحارب وحدته الترابية! نفس الأمر يكرره النظام منتهي الصلاحية، الذي سعى لتجريب نفس الأمر مع مالي، متوقعا الوصول إلى نتيجة مختلفة، عندما استضاف رئيسه تبون، في حضور رئيس مخابراته الخارجية الجنرال جبار مهنا، أحد الرموز الانفصالية المالية، واستغرب “بشدة” احتجاج السلطات المالية على ما اعتبرته عملا عدائيا سافرا مناوئا لوحدتها الترابية!! نفس السياسة سبق أن ارتكبها هذا النظام تجاه المصالح الوطنية لليبيا وموريتانيا وتونس، ويجدد في كل مرة، استغرابه من ردود أفعال هذه الدول الغاضبة على هذه الممارسات العدائية لنظام الجنرالات.
ختاما، فقد اقتربت -أو لنقل بدأت- عملية أداء فواتير نظام جنرالات فرنسا في الجزائر، لممارساتهم داخل منطقة الساحل المستمرة منذ الاستقلال الصوري لهذه الدول عن مستعمرها السابق فرنسا. مصير لا يمكن تفاديه أو تخفيض أثمانه، سواء بسبب أعمال هؤلاء الجنرالات التي قامت بها نيابة عن المستعمر الفرنسي، أو تلك التي لا يزالون يصرون على اقترافها في حق منطقة تتوق أخيرا إلى الانعتاق من الهيمنة الفرنسية، وبناء مستقبل آمن لا مكان لفرنسا “وعملائها” وأدواتها الإرهابية فيه، بمساعدة أشقائهم المغاربة المكتوون بدورهم من فرنسا وعملائها في الجزائر، منذ أزيد من ستة عقود، وليس ذلك اليوم ببعيد!