تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع فضيحة «بجلاجل»، بطلها إعلاميان مشهوران قاما بابتزاز المغرب للحصول على مبلغ مالي طائل. فقد نشرت وسائل الإعلام تفاصيل شنيعة عن لقاء تم في أحد فنادق العاصمة بين أحد محامي العاهل المغربي الملك محمد السادس، والصحفيين اريك لوران وكاترين غراسييه، حيث تسلم الثنائي مبلغ 80 ألف يورو هي دفعة أولى من مبلغ 3 ملايين يورو كان ينبغي أن يدفع لهما مقابل التخلي عن نشر كتاب استقصائي أعدّاه عن المغرب.
المزيد: توجيه الاتهام لإريك لوران وكاثرين غراسيي في قضية ابتزاز المغرب
وعلى الرغم من التفاصيل الموثقة التي نشرت حول القضية فإن لكل من الطرفين وجهة نظره. فالرواية المغربية التي نقلها محامي الملك محمد السادس تقول إن لوران ورفيقته ابتزا المغرب بالقول إنهما يملكان معلومات خطرة عن المغرب ستنشر في كتابهما الذي سيصدر في (يناير/ كانون الثاني المقبل) ويمكن أن يمتنعا عن النشر إذا ما دفع القصر الملكي 3 ملايين يورو.
في المقابل، يزعم الصحفي لوران العكس تماماً، إذ يدعي أنه اتصل بمكتب الملك محمد السادس كمصدر للمعلومات للتحقق من تفاصيل بحوزته والحصول على رد رسمي يؤكدها أو ينفيها، وهذا النوع من الإجراءات يعتبر كلاسيكياً في المهنة. ويزعم أن المحامي المغربي هو الذي عرض عليهما التخلي عن الكتاب لقاء 3 ملايين يورو، مشترطاً أن يحصل أيضاً على هوية مصادر الصحفيين اللذين رفضا كشف الأسماء، ولم يرفضا العرض الذي خطط له أن ينفذ عبر كمين محكم تحت أعين وبصر الشرطة الفرنسية التي ألقت القبض على الصحفيين فور إتمام الصفقة، حيث تسلم لوران قسماً من المبلغ لقاء عقد وقعه بالتخلي عن النشر.
الواضح أن الروايتين تختلفان حول طبيعة ما حصل فهو ابتزاز بالنسبة إلى المغرب، وهو صفقة في نظر الصحفي لوران.
تبدو القضية بغض النظر عن زاوية عرضها عنواناً بارزاً لفساد في السلطة الرابعة في فرنسا، وقد حظيت بتعليقات قاسية من نوع أن شرف الإعلام الفرنسي قد تلوث بالوحل، وطرحت على هامشها أسئلة أخرى من نوع: كم هو عدد الكتب والتحقيقات التي لم تنشر في فرنسا عن دول في العالم الثالث لقاء صفقات ناجحة وغير مكشوفة بين المعنيين؟ ما يعني أن قضية لوران هي رأس جبل الجليد المكشوف الذي يفصح عن ظاهرة فساد كبيرة في أروقة السلطة الرابعة في هذا البلد.
المزيد: الوثيقة الخطية الموقعة من طرف إريك لوران وكاترين غراسيي في قضية ابتزاز المغرب
ولعل السؤال المحرج هو كيف يمكن مكافحة الفساد في أجهزة إعلامية تملك حصرياً سلطة الكشف عن الفساد في أجهزة الدولة والمجتمع. بعبارة أخرى عندما تكون سلطة الكشف عن الفساد في السلطات الأخرى هي نفسها فاسدة فهذا يعني أن عمر الفساد طويل جداً، وأن سلطة الفاسدين صارت أقوى من كل السلطات.
حتى الآن كان الصحفيون يتضامنون بقوة مع زملائهم الذين يتهمون بقضايا الرشوة، أو عندما ترفع ضدهم دعاوى ظالمة بسبب عملهم الصحفي، وحتى هذه اللحظة لم تشذ وسائل الإعلام عن القاعدة. فقد نشرت صحيفة «لوموند» العريقة مقابلة مطولة مع اريك لوران برر فيها ما حصل بطريقة مخففة، ودافع عن نفسه بقوة من دون تدخل من الصحيفة. وكذلك فعلت شريكته كاترين غراسييه في صحيفة «لوباريزيان» ما يعني أن السلطة الرابعة لا تحب من يتهمها من ممثلي السلطات الأخرى، وأن التضامن سيد الموقف في هذا المجال حتى إشعار آخر، لكن ماذا عن ثقة الرأي العام بالإعلام والإعلاميين، وهل تؤدي فضيحة من هذا النوع إلى اهتزاز ثقة الناس بإعلامييهم؟
المزيد: قضية ابتزاز اريك لوران للملك محمد السادس في التلفزيون الفرنسي
اهتزاز الثقة يهبط ويعلو في هذا الوقت وفي كل الأوقات، لأسباب عدة أهمها قدرة الرأي العام على الإفادة مباشرة من وسائل التواصل الاجتماعي التي حولت القارئ إلى ناشر وقارئ في الآن معاً، وأتاحت ضخ كميات هائلة من الأنباء من دون قيود كتلك التي ميزت، وتميز عمل المؤسسات الإعلامية التي تلتزم كل منها بسياسة تحريرية خاصة.
ومن بين الأسباب الأخرى سيطرة الأسواق المالية على وسائل الإعلام التي صارت إلى هذا الحد أو ذاك امتداداً للسلطة المالية، فالشركات الكبرى حرصت على الدوام على مد نفوذها إلى السلطة الرابعة للجمع بين السلطتين، وبالتالي ممارسة التأثير فيها في مناسبات تشكيل السلطة السياسية، حيث يتدخل الممولون لترجيح كفة طرف على طرف أو مرشح على مرشح.
ومن المفيد التذكير بضعف وتراجع الصحافة الاستقصائية التي صنعت مجد السلطة الرابعة، إما بسبب تدخل وسائل التواصل الاجتماعي في مجالات الاستقصاء والتحقيق الموثق، وإما بسبب التكلفة الباهظة لمواد الاستقصاء في وقت طالت فيه مهل عصر النفقات في وسائل الإعلام، وإما بسبب قدرة ممثلي السلطات الأخرى، وبخاصة الاقتصادية على التدخل الوقائي لمنع التحقيق في هذا الباب أو ذاك، فضلاً عن اعتبارات الفساد والرشوة والابتزاز.
ثمة من يعترض على هذا التوصيف بالحديث عن لوائح الشرف التي تلزم الصحفيين، وعن قيم المهنة الأخلاقية، وعن وجوب التصدي لمغريات الرشوة والفساد. الاعتراض مشروع .
وليس خاطئاً، لكن المشكلة أن قلة تلتزم بهذه القيم التي ميزت أصلاً اريك لوران المعروف بجديته واحترامه في الوسط الإعلامي، لكن قيمه الأخلاقية انهارت كما رأينا أمام سلطة 3 ملايين يورو.
*كاتب صحفي لبناني/”الخليج”