منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي في 14 يناير ( كانون الثاني)2011، اصبح يوم وفاة الزّعيم الحبيب بورقيبة في السّادس من شهر ابريل (نيسان) 2000، مناسبة وطنيّة كبيرة فيها يحتفل التونسيّون بذكرى رحيل ” المجاهد الاكبر” الذي قاد معركة النّضال الوطني للخلاص من الاستعمار ووضع الاسس الاولى لدولة الاستقلال محدثا ثورة هائلة في مجال حقوق المراة، والتعليم،وفي العديد من المجالات الاخرى.
كما يحتفل التونسيون بميلاد زعيمهم الموافق للثالث من اغسطس (آب) 1903، والذي كان يعتز به كثيرا، بل يؤثره على مناسبات وطنية اخرى ومحبذا ان تشارك في الاحتفاليات المخصصة له جميع ولايات الجمهورية ببرامج ثقافية متنوعة تحضر فيها العكاظيات الشعرية، والغناء والرقص.
كل هذه الاحتفالات تنتظم في مسقط رأسه المنستير بمنطقة الساحل التونسي. ويوم الاحتفال بهذين الذكرتين، يتوافد على المدينة، آلاف الزّوّار القادمين من مختلف انحاء البلاد. وإلى جانب العديد من الوزراء والمسؤولين القدامى الذين ساهموا في بناء دولة الاستقلال وعملوا إلى جانب “المجاهد الاكبر”.
تشارك في الاحتفالات اجيال مختلفة، منها من عاش الزمن البورقيبي ومنها من لم يعشه. كما تشارك فيه فئات اجتماعيّة تتوزّع بين الاغنياء والفقراء، والموظّفين والفلاّحين، ورجال الاعمال والعمّال البسطاء، والمثقّفين واشباه الاميين.
المزيد: هل تتحول البورقيبيّة إلى أيديولوجيا؟
ولا يجمع بين هؤلاء، ولا يوحّد بينهم غير الوفاء لبورقيبة، والاعتزاز به قائدا حكيما، وزعيما فذّا، ورجلا تميّز بخصال نادرة عند رجالات عصره. قد يتساءل الكثيرون عن سبب او عن اسباب هذا الوفاء المؤّثر الذي اصبح قسم كبير من التّونسييّن يظهرونه لبورقيبة، وهذا الحنين الذي يبدونه تجاه زمنه. فكأنه لم يرتكب اخطاء، ولم يكن لا مسيطرا ولا مستبدّا، ولم يقبل بالخروج من قصر قرطاج إلاّ بعد ان امضى الاطباء وثيقة تثبت عجزه التامّ عن قيادة البلاد.
واعتقد ان هذا الوفاء يعود إلى انّ التّونسيّين يعيشون راهنا مرحلة تتّسم بالتّذبذب والترجرج، والخوف من الحاضر، ومن المستقبل القريب والبعيد. وبالتالي هم بحاجة إلى من يساعدهم على استعادة توازنهم، وثقتهم بانفسهم وقدرتهم على مواجهة المصاعب والمخاطر التي افرزها الزلزال الكبير الذي هزّ بلادهم في الرابع عشر من شهر يناير 2011 مجبرا بن علي الذي اخرج بورقيبة من قصر قرطاج على ترك السلطة والفرار من البلاد.
المزيد: التونسيون في واقع متعدد الاحتمالات
ولعلّ التونسيّين وجدوا في بورقيبة خصال الاب الذي إليه يلجؤون عند اشتداد المحن، والقائد الذي به، وبحكمته يستعينون في هذه الفترة العصيبة من تاريخهم. وليس ذلك بالامر الغريب. فقد قاد بورقيبة او “المجاهد الاكبر” كما كان يحبّ ان يسمّى، معركة النّضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسيّ باقتدار وشجاعة وصلابة في المواقف ادهشت رفاقه وخصومه على حدّ السّواء.
وطوال سنوات الكفاح المريرة لم يبد بورقيبة ضعفا او تخاذلا او تراجعا عن مواقفه. وحتى في اشد الاوقات حرجا، حافظ على معنويات مرتفعة، وتحلّى بصبر عظيم، مواجها المستعمرين الفرنسييّن بما كان يسمّيه بـ”سياسة الكرّ والفرّ” التي قد يكون استوحاها من الفيلسوف الصّيني الشهير سان تزو صاحب كتاب “فنّ االحرب”.
وحالما استلم السّلطة بعد حصول تونس على استقلالها عام 1956 خاض بورقيبة معركة بناء الدّولة الجديدة، او ما كان يسمّيه بـ”الجهاد الاكبر” بنفس الحميّة والحماس اللذين خاض بهما معركة النضال الوطني.
وفي حين آهتمّ جلّ القادة العرب، وقادة البلدان الحديثة العهد بالاستقلال بما سوف يعود عليهم وعلى شعوبهم بالضّرر الكبير في ما بعد ،انصبّ اهتمام بورقيبة على مقاومة كلّ مظاهر التخلف والجهل والانحلال والتزمت الديني..
وحارب العروشيّة والعصبيّة القبليّة، ومختلف الامراض الاجتماعيّة التي قد تزرع الفتنة بين ابناء شعبه، وتنال من الوحدة الوطنيّة.
ولكي يضمن النجاح لمشروعه التّحديثي، اقدم على إصلاحات لم يجرؤ عليها كثير من القادة العرب والمسلمين في تلك الفترة. فقد أنشأ المدارس في القرى والمداشر البعيدة، التي تكاد تكون منقطعة عن العالم مردّدا في خطبه التي كانت بمثابة التوجيهات انّه لا يستطيع ان يحكم شعبا جاهلا. وعبر ما اصبح يسمّى بـ”مجلّة (قانون) الاحوال الشخصيّة”، حرّر بورقيبة المراة التونسية من اغلال التقاليد القديمة ليجعلها مساوية للرجل في حقوقها وواجباتها ومانحا إيّاها دورا اساسيّا في بناء المجتمع الجديد.
ورغم ان ما اقرّته “مجلّة الاحوال الشخصيّة” من حقوق بالنسبة للمراة ازعجت الاوساط المحافظة في تونس، وفي العديد من البلدان العربيّة والاسلاميّة، فإن بورقيبة تمسّك بموقفه،ودافع عنه بقّوة اخرست المناوئين له. واحدث شعار”فرحة الحياة” الذي رفعه بورقيبة في بداية الاستقلال، حماسا كبيرا لدى التونسيين بجميع فئاتهم الاجتماعيّة لينخرطوا في البناء والتشييد بشكل لم يسبق له مثيل.
وعلى المستوى الخارجيّ سلك بورقيبة سياسة حكيمة دلّت على حنكة ودراية بقضايا عصره وعلى معرفة دقيقة بشؤون الدول الكبيرة والصغير على حدّ السّواء، ولا تزال مواقفه الشجاعة والحكيمة بشان الصّراع العربي – الاسرائيلي تثير إعجاب الكثيرين عاكسة نبوغه السياسي، ودالّة على انه على حقّ عندما كان يقول بشيء من الحسرة بانه اكبر من حجم البلد الذي يحكمه!
وقبل زلزال 14يناير 2011، كان التونسيّون وغير التّونسييّن يعتقدون ان بورقيبة خرج من الباب الضيّق للتّاريخ بعد ان دخله من بابه الواسع، لكن يبدو ان الاقبال الشعبيّ الهائل على الاحتفال بذكرى وفاته، وعيد ميلاده ابطل هذا الاعتقاد، مظهرا بجلاء ووضوح ان قسما كبيرا من التونسييّن لم يعودوا معنيين بالسلبيات التي وسمت شخصيّة “المجاهد الاكبر”، ولا بالجوانب المظلمة التي طبعت حكمه مثل الاستبداد بالرّاي، وجنون العظمة والرئاسة مدى الحياة، واستهانته بادوار رفاقه في النضال الوطنيّ، والقمع الذي ووجهت به الانتفاضات الشعبية والطلابيّة على مدى ثلاثة عقود.
كل هذا يعني ان التّونسيين لا يهتمون إلاّ بالجوانب الايجابيّة في شخصيّة بورقيبة، وفي طريقته في الحكم، وفي تسيير المجتمع، وشؤون الدولة. ولعلّ ذلك يعود إلى خيبة الامل الكبيرة التي أصيبوا بها بعد زلزال الرابع عشر من يناير 2011. فقد وجدوا انفسهم امام حكام مرتبكين ومتشنّجين ومضطربين وعاجزين عن تسيير شؤون الدولة داخليّا وخارجيّا.
حكام تنقصهم الخبرة والدراية السياسية والثقافة الواسعة التي كان يتميّز بها بورقيبة. وقد سعى ويسعى البعض من هؤلاء الحكّام الجدد إلى التنقيص من قيمة بورقيبة والتّحقير من شانه، وتقزيم دوره في النضال الوطني وفي بناء الدولة، والتشكيك في إنجزاته وإصلاحاته الاجتماعيّة وغيرها، غير ان ذلك لم يعد عليهم باي نفع، بل زاد في حبّ التونسييّن لبورقيبة وفي اعتزازهم به في زمن طغت عليه الرداءة والرعونة، والابتذال والسطحيّة، وشوّهته الصّراعات الايديولوجيّة والعقائديّة التي كان “المجاهد الاكبر” يضيق بها اشدّ الضيق، ومعتبرا إياها اوبئة فتّاكة، ومدمّرة للمجتمعات، وفاتكة بالشّعوب، ومقوّضة للمشاريع العقلانيّة والواقعيّة.
ومن الواضح ايضا انّ التّقدير الكبير الذي يحظى به بورقيبة راهنا بين ابناء شعبه يعود كذلك الى مشروعه الاصلاحي والحداثي الذي تميّز به، والذي اخرج تونس من ظلمات الجهل والفقر والتخلّف، جاعلا منها منارة مشعة على ضفاف المتوسّط. وهو مشروع يسعى الحكّام الجدد إلى التشكيك فيه بهدف تدميره وتخريبه وتغيير النمط الذي اختاره بورقيبة للمجتمع التونسي. وهو ما يرفضه قسم كبير من التونسييّن.
من هنا ندرك سبب عودتهم إلى الزعيم بورقيبة آملين ان يمنحهم تراثه الفكري والسياسي ما يمكن ان يقيهم غوائل الازمات الخطيرة التي يتخبطون فيها راهنا، والتي باتت تهدد كيان الدولة التي بناها، والوحدة الوطنية التي ارساها في فترة عصيبة كان فيها الشعب التونسي “حفنة من غبار” كما كان يقول في خطبه الشهيرة!
*كاتب صحفي/”مجلة الخليج”