انطلقت مساء يوم الجمعة، الرابع والعشرين من يوليو،فعاليات موسم اصيلة الثقافي الدولي، في دورته السابعة والثلاثين، مؤكدا مرة أخرى، إحراز قصب السبق في طول العمر وانتظام الانعقاد، بموازاة مع تحسين مطرد ومراجعة مستمرة، بغاية تطوير وتجديد شكل ومحتوى الانشطة الثقافية والفنية التي تقام وتعرض في المدينة على مدى أيام الموسم التي جرت العادة ان تتجاوز اسبوعين على الأقل.
المزيد: مشاركة كويتية متنوعة في موسم أصيلة الثقافي الدولي ال 36
ويمكن القول بموضوعية ان موسم أصيلة شكل خلال الاطوار والتحولات التي مر بها، من جمعية محلية صغيرة،إلى، مؤسسة راسخة؛ شكل أنجع مثال للدبلوماسية الثقافية في المغرب قبل ان يكثر الحديث عنها على نطاق واسع بين السياسيين.فهذا الموسم أدى دور التطبيع بين النظام في المغرب وشرائح من المثقفين اليساريين المشرقيين، ناصبوه عدم الود، خلال زمن الاحتقان السياسي واحتدام الاحتراب الايديولوجي بين المعسكرين الشرقي والغربي منذ ستينيات القرن الماضي.
كانت طائفة من أولائك وفيهم كتاب وأدباء وناشطون حزبيون، تجهل حقيقة ما يقع في المغرب، من تحولات جذرية ونقلات نوعية في اتجاه التحديث وإشاعة التنوير، بدون ضجيج إعلامي.
ووفد على موسم اصيلة أبرز رموزاليسار العربي، وكانت لراعيه، الوزير محمد بن عيسى، الجرأة الفكرية حين دعاهم، وهو بعيد عن أية مظلة سياسية رسمية تقيه غضبا محتملا من الذين لم تعجبهم فكرة الموسم، لكن بن عيسى، استمر على نفس وتيرة العلاقة مع المثقفين والفنانين المحتجين بل عمقها وقد صار وزيرا مرتين وسفيرا.
كتاب ومثقفون منخرطون في احزاب وتنظيمات يسارية؛ سيصابون بصدمة ايجابية، بما شاهدوه بأم أعينهم ولمسوه بأيديهم على الطبيعة في المغرب: حيوية اجتماعية ونقاش فكري واسع وتعددية فكرية؛ ونحن في نهاية السبعينيات من العام الماضي.
لم يكن ذلك الحراك الفكري محصورا في العاصمة الضاجة دائما بالمواقف المتجاذبة في صالونات النقاش السياسي؛ ولكن الموسم نجح في نقله الى مدينة صغيرة، بعيدة عن المركز، ستتحول مع توالي الدورات الى فضاء رحب لنقاش حر ومنتدى لتبادل الأفكار؛ لا يعترف بالطابوهات. يشارك فيه المثقف الملتزم والاديب المبدع ومنتجو الأفكار بصفة عامة؛ يتواجهون في معارك حامية، فيما بينهم، ولكنها غنية ومحفزة في صراحتها وصخبها. يواجهون رجال السياسة وصانعي القرار؛ وغالبا ما دار النقاش حول قضايا راهنة ومستغلة في زمانها.
ظلت تلك الخاصية، السمة المميزة للندوات والتظاهرات التي احتضنتها جامعة، المعتمد بن عباد الصيفية. والجامعة في حد ذاتها، فكرة رائدة غير مسبوقة في المغرب، كإطار شبه اكاديمي، منفتح على العطاءات الفكرية للنخب على جانبي ضفة المضيق، بادئ ذي بدء، ارتباطا برمزية الاسم الأندلسي المعتمد بن عُبَّاد.
أشرعت الجامعة ابوابها، بعد نجاح التجربة، امام فاعلين ونخب من دول الجنوب لوضعهم في مواجهة فكرية مع أنفسهم ومع نظرائهم من دول الشمال.
ونوقشت في اصيلة، ومنذ وقت مبكر، إشكاليات أطلت مؤشراتها المقلقة في ذلك الحين قبل ان تتعاظم في الوقت الراهن؛ فوجهت أصيلة الأنظار، نحوها لاحتوائها.
وفي نفس المدينة، تم التطرق، على سبيل الذكر، الى العلاقة بين الغرب والشرق وكيف ينظر كلاهما الى الاخر ويتصوره في مخياله السياسي والابداعي.
وفيها اثيرت مشكلات الهجرة، بل تم التحذير مبكرا من النزيف الذي تتعرض له دول الجنوب بهروب وتهريب ادمغتها ورأسمالها الرمزي من أوضاع مجتمعية بائسة. والغرب يتحمل قطعا مسؤولية تشجيع ظاهرة إفقار بلدان الجنوب وتجفيف منابع ثروتها الذهنية.
لا ننسى في نفس السياق، قضايا أخرى هامة أدرجت في مواسم سابقة، من قبيل صراع وحوار الحضارات والثقافات وظاهرة الاسلام السياسي.
كانت مواسم اصيلة في طليعة المحافل الفكرية ومراكز البحث المهتمة بتلك الانشغالات وفتحت آفاق المعرفة بشأنها.
وتصعب الإحاطة بمسار مشروع ثقافي في مثل هذا الحيز، لكن لا بد من التأكيد على أمرين أولهما ان الأفكار النافعة هي التي يكتب لها البقاء. ومشروع أصيلة، تبلور في البداية كحلم داعب خيال شباب، حز في نفسهم ان تظل بلدتهم الصغيرة مستسلمة لقدرها، فاتفقوا على توحيد جهودهم وامكاناتهم المحدودة، وبدأوا في تسطير الحلم على الطبيعة. هل نجحوا في ذلك؟ والى اي مدى؟ التاريخ الثقافي هو الكفيل بقياس حجم النجاح وتأثيره.
الامر الثاني الذي لا ينبغي تجاهله، ان مواسم اصيلة، بانفتاحها وتعدديتها ونظرتها الى تفاعل الفعل الثقافي في شموليته؛ ساهمت الى حد كبير في ابراز الوجه الحضاري للمغرب ما عجزت عنه الدبلوماسية التقليدية المتراخية، والاعلام المتكاسل في الماضي.
وينبغي الاعتراف بان مشروع اصيلة، كفكرة نابعة من قلب المجتمع المدني ما كان له ان يحقق ما كسبه من انتشار وصيت عالمي، لولا تفاني القائمين عليه.
جدير بالتذكير ان المجتمع السياسي والثقافي المغربي، نظر الى مشروع اصيلة في البداية بنوع من التحفظ. ربما لانه فضح عجزه عن إطلاق مشاريع فكرية مماثلة، ولكن “المصالحة” التي لم تسبقها خصومة قوية، تحققت بين الطرفين، واصبحت فضاءات اصيلة ساحة مشتركة تتبارى فيها الأفكار بين المغاربة بمن فيهم مشاركين حزبيين، جنبا الى جنب وعلى نفس المنصة مع مدعوين عربا واجانب.
يقترب موسم اصيلة من اكمال العقد الرابع، وهو عمر مديد في حياة الجمعيات الثقافية. لم تظهر بعد علامات الوهن، لكن الطاقات البشرية محدودة ولها زمن لا يمكن ان تتجاوزه وكذلك المشاريع الفكرية مهما كان وهجها تخبو ولها عمر افتراضي.
روح أصيلة، كمحرك للعمل المجتمعي المؤسس على الاستثمار في الثقافة والابداع والموروث اللامادي؛ يجب ان تستمر لأنها صارت، أمانة يلزم العمل على إحيائها وتطعيمها بأشكال متطورة في اكثر من مدينة مغربية.
لم يعد سرا أن الملك الراحل الحسن الثاني، اعجب بالفكرة وساند مشروع أصيلة. اعتبره شبيها بحديقة “الهايد بارك” في لندن؛ لذلك سمح ان يقال في اصيلة ما لا يجرؤ آخرون عليه في اماكن قريبة!! سمح الملك الراحل لمثقفين عرب كانوا مدرجين ضمن قائمة الممنوعين من دخول المغرب وأن يتجولوا أحرارا بالبلد الذي كانوا يتوهمونه قلعة امنية حصينة.
ولما عاد هؤلاء الى أوطانهم دون ان يحقق معهم أو يعتقلهم جهاز أمني، كتبوا ونشروا شهادات عن المغرب الثقافي الذي لم يكن يعرف حقيقته كثيرون.
كانت تلك الكتابات أصدق شهادة على نجاح رهان التقريب بين الأفكار وعدم إقفال أبواب النقاش أو تأجيله حول القضايا الحيوية الضاغطة.
تلكم أوجه من الرسالة المستفادة من موسم أصيلة الثقافي الدولي.