لا يسعنا بداية إلا أن نهنئ إيران على انجاز الاتفاق النووي مع دول 5+1 وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وهو الاتفاق الذي تم التوصل إليه يوم الثلاثاء 14 يوليو 2015. لن نخوض هنا بالتفاصيل التقنية للاتفاق فيما يتعلق بالملف النووي وماذا كسبت إيران وماذا كسب الغرب والعالم، ولن نتوقف كثيرا عما يُقال من وجود بنود سرية في الاتفاق أو تفاهمات ضمنية حول سياسة إيران تجاه دول المنطقة بما فيه إسرائيل، وأن الاتفاق غطاء لمؤامرة على العرب، كل هذه الأمور ستشكل مادة خصبة للجدل والنقاش طوال سنوات قادمة. ولكن من المؤكد أن إيران خاضت بجدارة واقتدار مفاوضات استمرت 13 سنة، وأنجزت اتفاقا لم ينهِ فقط المشاكل المتعلقة بالملف النووي بل قد ينهي العداء بين طهران والغرب والذي أمتد لأكثر من خمس وثلاثين عاما بما قد يترتب على ذلك من معادلة جديدة في الشرق الاوسط.
صحيح أنه خلال هذه السنوات فرض الغرب عقوبات اقتصادية على إيران إلا أن المحصلة ستكون لصالح إيران الدولة والشعب، فخلال سنوات التفاوض طورت إيران برنامجها النووي وفرضت حضورها كفاعل دولي يحسب له الف حساب، سواء على مستوى منطقة الشرق الأوسط أو على مستوى العالم، كما أن العقوبات الاقتصادية سيتم رفعها مع بداية العام القادم والمشروع النووي وإن سيخضَع للمراقبة ويتم تحجيمه إلا أن إيران دخلت ضمن مجموعة الدول التي تمتلك التقنية النووية التي تؤهلها مستقبلا امتلاك السلاح النووي إن أرادت.
السؤال الذي يجب أن يطرحه كل عربي على نفسه: لماذا استطاعت إيران أن تخوض مفاوضات بجدارة وتفرض حضورها الإقليمي والدولي وتفرض على الغرب أن يتعاملوا معها بندية واحترام، بينما يفشل العرب في كل مفاوضاتهم وحواراتهم مع الغرب ومع إسرائيل في إنجاز أي من أهدافهم، أو في تأسيس علاقات تقوم على الاحترام والندية بدلا من علاقة التبعية التي تربطهم بالغرب، بالرغم من قدم العلاقات العربية مع الغرب وضخامة مصالح الغرب في الدول العربية؟
في هذا السياق نبدي بعض الملاحظات التي تندرج في إطار استخلاص الدروس والعبر:
أولا: يؤكد الاتفاق على أن السياسات الدولية تقوم على المصالح وليس على الشعارات والايدولوجيا، لذا فقد جمعت المصالح بين الغرب وخصوصا واشنطن (الشيطان الأكبر) مع إيران (راعية الإرهاب الدولي) على طاولة المفاوضات ثم التوقيع على الاتفاق المُشار إليه.
ثانيا: وظفت إيران والغرب باقتدار ما تم تسميته بـ “الملف النووي الإيراني” ومقولة الخطر الإيراني على السلام العالمي ودول المنطقة لتحقيق مصالح استراتيجية مشتركة للطرفين على حساب الدول العربية. فخلال ثلاثة عشر عاما طورت إيران قدراتها النووية ومدت نفوذها في المنطقة، وفي نفس الوقت وظف الغرب فزاعة الخطر الإيراني لتعزيز وجوده العسكري وبيع صفقات سلاح بمئات المليارات من الدولارات لدول الخليج، والطرفان اشتركا في تفتيت دول عربية وإثارة صراعات مذهبية وطائفية بين السنة والشيعة، وبين كل المكونات الإثنية والطائفية الأخرى.
ثالثا: إن العالم وخصوصا الغرب يحترم الدول القوية التي تملك مشروعا قوميا وتعرف كيف تدافع عن مصالحها، صحيح أن هناك منافسة وصراع على النفوذ والمصالح بين إيران والغرب، ولكن الغرب يعرف أيضا أن الدول القومية والمستقرة يمكن التوصل معها لتفاهمات حول المصالح المشتركة أكثر من مراهنتهم على دول ضعيفة تابعة تبعية مطلقة لهم، لأن الغرب يعرف أن هذه الدول غير مستقرة وغير قادرة على الحفاظ على الاتفاقات الموقعة ولا على المصالح المشتركة، بل قد تكون تبعيتها المطلقة عبء عليه.
رابعا: نجاح إيران في خوض المفاوضات وفي التوصل للاتفاق أيضا في تمدد نفوذها في المنطقة، يعود لأن المفاوض الإيراني وكذا الحكومة مسنودان بالشعب وبجبهة داخلية متماسكة ومؤيدة للحكومة وللمفاوضات، وهذا يؤكد العلاقة القوية بين الدبلوماسية والسياسة الخارجية من جهة والسياسة الداخلية من جهة اخرى.
خامسا: لأن الاتفاق لم يقتصر على أمور تقنية مرتبطة بالملف النووي بل تطرق المتفاوضون لمشاكل وقضايا المنطقة وعلاقة إيران المستقبلية بدول المنطقة، فمن المتوقع أن تغير إيران سياستها تجاه دول المنطقة. وإن كان من غير المتوقع أن تطرأ تغييرات جوهرية على علاقتها بالأطراف التي تربطها بها روابط دينية – الشيعة – كحزب الله والعراق وربما سوريا، فإنها قد تعيد النظر بعلاقاتها مع حلفائها السياسيين من غير الشيعة كحركة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، لذا على هاتين الحركتين الاستعداد لسياسة إيرانية مغايرة.
سادسا: حتى وإن لم تكن إسرائيل طرفا في الاتفاق فقد كانت موجودة بطريقة غير مباشرة وكان شبحها يحوم في أجواء المفاوضات، لذا من المتوقع أن تغير إيران خطابها تجاه إسرائيل، وقد يتطور الأمر لنوع من العلاقات غير المباشرة.
سابعا: حيث إن إيران لم تكن تشكل تهديدا مباشرا لواشنطن وللغرب عموما ولا لإسرائيل، وكان الصراع والخلاف حول النفوذ والمصالح في الشرق الأوسط وخصوصا في الخليج العربي، فمن المتوقع أن يؤدي الاتفاق إلى تفاهمات مكتوبة أو ضمنية على تقاسم المصالح والنفوذ في الخليج، لذا فإن المتضرر الأساس من الاتفاق هي دول الخليج العربي.
ثامنا: حتى وإن امتلكت إيران سلاحا نوويا في المستقبل، فلن تستعمله لضرب إسرائيل أو أية دولة غربية، بل ستستعمله كسلاح ردعي لحماية نفسها وحماية نفوذها في الخليج العربي، حيث إن امتلاكها للسلاح النووي سيؤسس لعلاقة بينها ودول الغرب وإسرائيل قائمة على الردع المتبادل، وهذا سيُضعف من إمكانية اندلاع حروب مباشرة بين الطرفين إلا أن ذلك لن يمنع من إمكانية اندلاع حروب أو مواجهات بالوكالة سيكون ميدانها المنطقة العربية.
تاسعا: على الدول العربية وخصوصا المملكة العربية السعودية الاستعداد لمعادلة جديدة في المنطقة ستتغير فيها التحالفات والتوازنات وخصوصا في الحرب التي تخوضها المملكة في اليمن. كما أن عليها البحث بجدية عن السبب في أن إيران الاقل ثروة مالية والأقل في مخزون النفط وإنتاجه تصبح دولة مركزية في المنطقة وتتعامل بندية مع الدول الكبرى، بينما الدول الخليجية والعربية تعيش حالة من الفوضى والتراجع؟
عاشرا: بالرغم من اختلاف المفاوضات الإيرانية مع الغرب عن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأهدافها، إلا أننا نتمنى على المفاوض الفلسطيني إعادة النظر في نهجه في التفاوض مع إسرائيل ويستفيد من التجربة الإيرانية، وأهم دروس يجب الاستفادة منه أن من الخطورة رهن مصير الشعب بالمفاوضات فقط بل يجب تفعيل وتوظيف استراتيجيات أخرى، وأن المفاوضات ليست حياة بل إرادة وفن وتكتيك وموازين قوى، وأن وجود توافق وطني وإرادة شعبية من اهم عناصر نجاح المفاوض والمفاوضات.
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر /” ميدل ايست أونلاين”