في ذروة الثورات العربية في 2011، انتشر اعتقاد أن ثمة تعريفاً جديداً للعروبة يأخذ طريقه إلى الظهور. بدا أن قضايا مثل التخلص من الاستبداد والفساد وتوسيع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وكرامة المواطن وحريته، قادرة على لمّ شمل شعوب الدول العربية التي لم يكن يجمعها غير انتماء شكلي إلى مؤسسات من طراز جامعة الدول العربية أو مشاهدة القنوات الفضائية.
الطور الحالي من الانحسار الذي بلغته الثورات وفشل أكثرها في تحقيق الشعارات التي قامت من أجلها، أعاد طرح سؤال عن المشتركات بين سكان الدول العربية. يبرر السؤال هذا نظر سريع في أحوال الدول وشعوبها وقائمة الأولويات لدى كل منها. سيبرز حينها أن مواضيع الاهتمام المشترك ضئيلة بل تكاد تكون معدومة.
لقد اختفت تماماً أسطورة «القضية المركزية» التي علقت الأنظمة على شماعتها كل الموبقات التي ارتكبتها في العقود السبعة التي مضت بعد النكبة الفلسطينية. نال الفلسطينيون الذين قاتلوا العديد من الحكومات العربية في سبيل قرارهم الوطني المستقل ما سعوا إليه لكن بعد أن اضمحلت القضية وخرجت من حيز الاهتمام العربي والعالمي ولم تعد غير سلعة يتاجر بها بعض حكومات «الممانعة» وكتبتها.
اليوم وبعد سلسلة الانهيارات في المجتمعات العربية وطرح المسألة الكيانية على عدد من الدول وغرق بعضها في متاهات اقتصادية وسياسية لا يبدو أنها ستخرج منها سليمة أو في أمد منظور، وبعد الاتفاق النووي الإيراني- الغربي الذي يحمل في طياته بدايات مرحلة تاريخية مختلفة نوعاً عما عرفته المنطقة منذ عقود طويلة، يصح التساؤل عما يجمع مواطني الدول العربية، في المشرق والمغرب، بأديانهم وقومياتهم ومذاهبهم المختلفة، بانقساماتهم الاجتماعية والجهوية، وما هي الوجهة العامة لأي عمل مشترك عابر للحدود الوطنية؟
من جهة ثانية، هل تكفي الهموم المشتركة التي تعبر عنها أزمات السياسة والاجتماع والاقتصاد لإنتاج هوية جديدة لسكان هذه المنطقة تتسامى على الانقسامات العرقية والدينية وتقدم نفسها كهوية وثقافة وانتماء؟ يجدر الانتباه إلى أن البديل الطامح إلى الحلول مكان الكيانات العربية الحالية، على علاتها الكثيرة – ونعني «الدولة الإسلامية» – ينحي جانباً الهوية القومية لمصلحة أممية تتوسل الدين أداة سلطوية فجّة. فضيحة هذه «الدولة» تكمن في أسباب نشوئها، أي في كونها تعبيراً عن أزمة المجتمعات التي تتمدد فيها وفي خلوها من أي فكرة تتجاوز إقامة سلطة عنيفة ذات جاذبية لأشخاص خارج نطاق الأزمات التي تخاطبها هذه الدولة، سيان كانت هذه الأزمات شخصية فردية على ما نرى في أرتال الأوروبيين الآتين للمشاركة في «الجهاد»، أو عامة.
تذرّر المجتمعات والدول في المشرق العربي يشكل القاعدة المادية وتبخر المؤسسات المعبرة عن المصالح المشتركة لاختفاء الثقافة والرؤى المتناسقة إلى المستقبل وكيفية مواجهة التحديات التي يفرضها. لقد اكتشفت المجتمعات أثناء انهيارها حجم الأضاليل التي روجت لها أنظمة الاستبداد وفراغ شعاراتها ووجد مواطنو سورية والعراق ولبنان وليبيا على سبيل المثال، أنفسهم في مواجهة اقتصاد تعرض إلى النهب المنظم على مدى عقود من حكومات فاشلة في كل شيء باستثناء التمسك بالسلطة، من جهة، وفي مقابل عالم يزداد الانخراط فيه تطلباً وصعوبة حيث ترتفع عوائق الكفاءة والعلم إلى أعلى مما يستطيع المواطن العربي القفز فوقه.
عندما يصل الإنسان إلى هذا الوعي الشقي، لا يجد حوله كيفما سرح بصره سوى رمال تحركها رياح سموم تكشف هياكل عظمية وبنادق.
*صحافي وباحث وكاتب لبناني/”الحياة”