كان للدين دور بارز في الثورة الليبية حتى إن البعض أطلقوا عليها اسم ثورة التكبير، لقد حضر الدين باعتباره جزءا من الموروث الثقافي والتاريخي الذي يعد رأسمالا رمزيا تحتاجه الجماعة لاستنهاض كل ما لديها من قوة معنوية.
وتمثل هذا الحضور في تشكيل كتائب تنطلق من الأيديولوجيا السياسية الإسلامية، فكانت هذه الكتائب رأس حربة في ساحة الصراع مع كتائب نظام القذافي، ولكن إلى جانب الدين ظهر عنصر آخر كان له أيضا دور فعال في الصراع المسلح مع نظام القذافي، هذا العنصر تمثل في المناطقية والقبلية التي أسهمت في إذكاء روح التصدي والمقاومة إبان هذه الثور.
بموازاة هذه الكتائب أنتجت الحرب تشكيلات أخرى تنتمي إلى المدن والمناطق التي تحمل أسماء قبائل وتتسمى بأسمائها وتدافع عنها في مواجهة كتائب القذافي، وكان ذلك في وقتها مدعاة للفخر والاعتزاز.
تعد القبيلة أحد أبرز مكونات المجتمع الليبي، وهي قديمة قدم التاريخ الاجتماعي الليبي، ولا تخلو منطقة في ليبيا من القبيلة التي ينتمي إليها الأفراد ويفاخرون بالانتماء إليها.
وساعد على تجذر هذه الظاهرة خلو ليبيا خلال فترات طويلة في تاريخها من وجود دولة عضوية تربط أطراف المجتمع في مختلف مناطق الإقليم، فضاعف ذلك من أهمية الوظيفة التي تؤديها العصبية القبلية في حياة الأفراد من حيث الدفاع عن مصالح الجماعة وحيواناتها وأرضها في غياب سلطة مركزية قوية تنشر الأمن وتفرض هيبة الدولة وتهيمن يدها على كل أرجاء الإقليم.
في ظل دولة عضوية وسلطة قوية تفقد القبيلة معظم وظائفها التي تؤديها للفرد، فتصبح مظلة اجتماعية يتضاءل دورها في حياته كلما ازداد الوعي وظهرت بدائل كالمجتمع المدني والأحزاب السياسية.
غير أنه في ظل حكم العقيد القذافي تم تسييس القبيلة عن طريق إنشاء ما كان يعرف بالروابط الاجتماعية، وهي في الواقع عملية “مأسسة” للقبيلة لكي تكون في خدمة النظام من خلال إعطائها أدوارا في مؤسساته السياسية الصورية مثل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ومؤتمر الشعب العام, وكان ذلك تجذيرا لظاهرة القبيلة وإخراجها من دورها الاجتماعي.
لقد أفرزت الحرب -ضمن ما أفرزته- قوتين: تتمثل أولهما في التشكيلات الإسلامية المسلحة، والقوة الثانية تمثلها التشكيلات المناطقية والجهوية المسلحة، وهما مولودان شرعيان من حيث إنهما خرجا من رحم المجتمع وينتميان إليه، فالليبيون مجتمع مسلم دينيا ومنابع ثقافته الأخلاقية والعرفية مصدرها الإسلام، كذلك العصبة الاجتماعية القبلية ضاربة في التربة الاجتماعية ومتجذرة في النسيج الاجتماعي الليبي.
لا شك أن أي مجتمع عندما يتعرض للحرب والعنف يفرز ردات فعل تعكس تركيبة نسيجه الاجتماعي ومنظومته الثقافية في جانبها الديني والأخلاقي والعرفي، وهذا على الأغلب ما حدث للمجتمع الليبي إبان الثورة المسلحة ضد نظام القذافي.
كان الليبيون -وما يزالون- متدينين، ولكن لم يكن هؤلاء منضويين في كتائب مسلحة، وكان الليبيون -وما يزالون- أبناء قبائل ولكن لم تكن لديهم مليشيات مسلحة، لكن الثورة أسقطت السلطة وجاءت بالسلاح فتحول الدين والقبلية إلى قوتين مدججتين بالسلاح.
بعد سقوط النظام وإعلان الانتصار بدأ الليبيون يكتشفون ما لم يكن في حسبان معظمهم إبان الحرب، فامتشاق السلاح أثناء الحرب مع القذافي من قبل الجماعات والأفراد كان يعتبر هو الحل لإشكالية الصراع المسلح مع النظام.
ولذا، فقد كان التكبير في المساجد والساحات والدعوات إلى حمل السلاح، وكان التسابق بين الكثير من المدن والقبائل للمشاركة في الحرب، ولكن عندما التفت الليبيون إلى تأسيس مؤسسات سلطة الدولة لتأمين الاستقرار المجتمعي وجدوا أن هذه التشكيلات المسلحة هي العائق الأكبر أمام حلم إقامة دولة مدنية تقودها سلطة ديمقراطية ناتجة عن الإرادة العامة للشعب الليبي.
فبعد انتخاب الليبيين أول مؤسسة سياسية بعد ثورة الـ 17 من فبراير (المؤتمر الوطني العام)، اكتشفوا أنها ضعيفة أمام هاتين القوتين المتمثلتين في الكتائب المؤدلجة دينيا وتلك المنتمية إلى القبائل والجهات، وزاد من حدة هذا الوضع سوء أداء المؤتمر والحكومة المنبثقة عنه في نظر أغلبية الليبيين.
وجد الليبيون أنفسهم أمام جملة من الحقائق المتعلقة بهاتين القوتين المؤثرتين في المشهد السياسي ومنها:
1- إن الشرعية السياسية لا تكفي وحدها لبناء مؤسسات فاعلة، فالانتخابات التي شاركوا فيها بحماس منقطع النظير لم تكن كافية لإعطاء هذه المؤسسة الفاعلية التي كانوا ينتظرونها، ليس بسبب عدم جودة أدائها فقط بل أيضا بسبب ضعفها أمام هاتين القوتين، فالديمقراطية مثلها مثل الدكتاتورية تحتاج إلى القوة مع الفرق في وظائف استخدام هذه القوة والرقابة عليها.
2- إن القوة المادية توجد لدى هاتين القوتين اللتين لا تتمتعان بشرعية التفويض والانتخاب مما ينتقص من قيمة مفهوم التفويض والانتخاب في نظر الأفراد الذين كانوا يظنون أن الإرادة العامة بعد الثورة هي المصدر الوحيد لقوة أية مؤسسة، وبالتالي فقد سرت في أوساط بعض العامة روح عدم الثقة في المسار الديمقراطي وفي آليات الديمقراطية السياسية، وهو ما نتج عنه ظاهرة ملحوظة من العزوف وفقدان الحماس للمشاركة في الانتخابات التي يقتضيها بناء المؤسسات السياسية في الدولة.
3- إن هاتين القوتين تحاولان فرض شرعية الأمر الواقع في مواجهة شرعية الإرادة العامة، وذلك انطلاقا من تبريرات تخص كلا منهما على حدة، فالتشكيلات المسلحة المؤدلجة دينيا تنطلق من مسلمة أن ما تطرحه من رؤية حول السلطة والدولة هو حقيقة ربانية مطلقة لا تطالها إرادة البشر لا جماعة ولا فرادى، وبالتالي فمن العبث أن يقوم إنسان بتفويض إنسان آخر في ما لا يملكه هو ولا من فوضه، ومن هنا يصبح الاحتفاظ بالسلاح ضرورة تقتضيها المواجهة مع من يتجاهل هذه الحقيقة.
أما التشكيلات المسلحة ذات البعد القبلي والجهوي، فإنها تبرر وجودها بمخاوف من ثارات قبلية أو تغول طرف قبلي على حساب طرف آخر في ظل عدم وجود أو ضعف قوة الدولة الشرعية المتمثلة في الجيش الوطني والشرطة، وبعضها يرفع مطالب تتعلق بالتهميش المناطقي والجهوي ويحاول فرض حلول لها دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة إقرارها في الدستور الذي يجب أن يستفتي عليه كل الليبيين الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء.
4- إن هاتين القوتين تستظلان بالشرعية الثورية، فكل منهما تعتبر نفسها من قوى الثورة التي شاركت في الصراع المسلح مع نظام القذافي، ومن ثم إسقاطه، وبالتالي فهي ترى في ذلك حصانة لها من أية تهم أو شكوك.
5- أشاعت هاتان القوتان مناخا عاما من عدم الانضباط واحترام سلطة الدولة مما شجع على ظهور جماعات مسلحة أخرى تعمل في إطار الجريمة، فأدى ذلك إلى تعقيد وتشابك الخيوط التي تؤدي إلى الكشف عن الفاعلين الحقيقيين لأية جريمة، فاختلطت جرائم الاغتيال السياسي مع جرائم القتل الثأرية والسطو المسلح.
6- لا تقف خلف أي من هاتين القوتين قوة اجتماعية ذات ثقل ديموغرافي مؤثر لا على الصعيد السياسي ولا على الخارطة الانتخابية، فكل قياسات الرأي العام والمظاهرات وردات الأفعال الجماعية تدل على أن أغلبية قد لا تقل عن 95% ترفض هاتين القوتين كجماعات مسلحة، وتقبل بهما كأصحاب وجهة نظر يدافعون عنها بالطرق السلمية وعبر آليات الديمقراطية.
ولذا، فإن هذه الكتائب المسلحة سواء التي تنضوي تحت الأيديولوجيا الدينية أو تلك التي تحمل أسماء المناطق أو القبائل تعتمد فقط على قوة ما لديها من سلاح.
7- لا يوجد بين هاتين القوتين نقاط التقاء كثيرة يمكن أن تجمع بينهما في برنامج مشترك، ولعل المشترك بين الاثنين هو عدم قبول الأغلبية العظمى من الليبيين لأطروحات كل منهما.
إن موقف الرفض لهاتين القوتين والذي يكاد يجمع عليه الليبيون له كما يبدو سببان:
السبب الأول يتعلق بمظهر هؤلاء وممارساتهم، فهم لا يظهرون في شكل جماعات مدنية لها آراء ومطالب، بل يظهرون في شكل جماعات مسلحة لا تنضوي تحت مظلة الدولة، كما أنهم يمارسون في بعض الأحيان التهديد والتلويح باستخدام القوة في مواجهة الدولة والمجتمع مما يجعلهم في نظر مختلف فئات المجتمع عنصر عدم استقرار يشكل خطرا على السلم الاجتماعي ووحدة الوطن.
السبب الثاني يتعلق بأطروحات هاتين القوتين المسلحتين، فأغلبية الليبيين يبدو أنها تشعر بالخوف والقلق من أن تحاول إحدى هاتين القوتين -إن لم يشتد ساعد الدولة- فرض أطروحته بقوة السلاح، ولا سيما أن أطروحات كلا الجانبين لا تحوز على رضى الليبيين الذين يرون في الأطروحات المتشددة للكتائب ذات الأيديولوجيا الإسلامية صيغة مضادة للدولة المدنية والنظام السياسي الديمقراطي ومفهوم الحريات العامة.
كما يعتبرون المطالب التي ترفعها الكتائب المناطقية بمثابة تجذير للنعرة القبلية والجهوية لخلق مشاعر عداء وكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وتلك بداية الطريق نحو تقسيم ليبيا إلى دويلات لا تتميز أي منها عن الأخرى سوى بتبعيتها لقوة أجنبية تختلف عن التي تتبعها الدويلة الأخرى.
“الجزيرة”
اقرأ أيضا
مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون لحماية التراث
تداول مجلس الحكومة وصادق على مشروع القانون رقم 33.22 يتعلق بحماية التراث، أخذاً بعين الاعتبار الملاحظات المثارة في شأنه بعد دراستها، قدمه محمد المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل.
دراسة: معظم علاجات السرطان على “تيك توك” مزيفة
توصل بحث جديد من جامعة لندن إلى أن ما يصل إلى 81% من علاجات السرطان …
حقوقي لـ”مشاهد24″: “خلوة الرباط” تبرز جهود المغرب في الدفاع عن حقوق الإنسان
تحتضن العاصمة المغربية الرباط يومي 21 و22 نونبر الجاري خلوة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والتي ستناقش التحديات الرئيسية والرهانات التي تواجه المجتمع الدولي في مجالات النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها.