هل يمكن فهم حقيقة المعارك الدائرة بنغازي وأبعادها؟ وهل هي معركة بين الجيش والإرهاب؟ وهل في ليبيا جيش لكي يقاتل الإرهاب؟ وهل عرفنا من وراء الاغتيالات المنظمة في بنغازي لكي نحدد المسؤول على الإرهاب؟ وهل هو قتال بالأصالة أم بالوكالة؟
إذا صدقنا الفرضية القائلة إن معركة بنغازي هي معركة بين “الجيش” و”الإرهاب”، كان من الأولى تصديق ما كان يقوله القذافي في فبراير/شباط 2011 بأن معركته كانت بين القاعدة والجيش الليبي.
بعد سنتين متواصلتين من عمليات الاغتيال المنظم في بنغازي مصحوبة بعمل مخابراتي محكم تحت الأرض، ظهر منه حتى الآن بعده الإقليمي، وكتيبته الإعلامية الشرسة، التي استطاعت تضليل الرأي العام، فقلبت الحقائق ومسخت المفاهيم، وصنعت لهم وثنا جديدا يتعلقون به ليعيدهم إلى حظيرة العبودية السياسية.
لا أدعي أني أملك الإجابة على سؤال عنوان المقال، لكني أحاول إضاءة زاوية لهذا الموضوع، فمنذ منتصف مايو/أيار 2014 إلى تاريخ كتابة هذه المقالة وبنغازي تتعرض لقصف جوي وهجوم بري بجميع الأسلحة الثقيلة، واعتداءات على البيوت وحرقها وسرقة المؤسسات العامة والخاصة، ونهبها، وتوقفت كل مظاهر الحياة في بنغازي.
وقد تبين أن عناصر هذه الحملة هم ضباط يقودون مجموعات متفرقة من القرى المحيطة ببنغازي ومدن الشرق الليبي، ومن خلال السلوك الذي انتهجه هؤلاء في مدينة بنغازي يمكن وصف هذه الحملة بأنها غزو هلالي تم بالتعاون بين جماعات الأعراب ووكلائهم في بنغازي، فالتقى على دمار بنغازي فعاث فيها فسادا.
العلاقة بين بنغازي والبدو ترجع إلى الجدلية المستمرة بين المدنية والبداوة، وقد حققت بنغازي نجاحا ملحوظا منذ بداية نهضتها التعليمية في خمسينيات القرن الماضي، باستيعابها قرى الطوق المحيطة بها، ودمجها في المدينة، وجاء النفط في بداية الستينيات ليرفع من حالة الإدماج بين بنغازي وأعرابها، وظل الجدل متفاعلا في بنغازي بين تمدن البدو، وتبدي المدينة.
إن العنف الذي مارسه الغزاة ببنغازي تجاوز كل الحدود، فمن جاؤوا لمحاربة الإرهاب إذا بهم يمارسون التعذيب والقتل والخراب في أبشع صوره، ودباباتهم تتجول وتقصف في داخل أحياء بنغازي وأزقتها العتيقة، الأمر الذي يمكن تفسيره في سياق الانتقام من ريادة هذه المدينة التي فتحت آفاق الأمل للتأسيس لاستقلال القرار الوطني والتحرر من العبودية السياسية.
للأسف وقع كثير من سكان بنغازي ضحية للسكر الإعلامي، وعندما داهمهم الغزو وجد مدينة يرقص بعض سكانها طربا على أشلاء أبنائهم، ودمار بيوتهم، وإقفال مدارسهم، وتدمير جامعتهم، وتشريد عائلاتهم، بل إن روائح القمامة المتراكمة المنذرة بانتشار الأمراض المعدية صارت شذا زكيا!
فقد الليبيون صوت الحكمة الذي يضع حدا لهذه الكارثة الإنسانية والحرب المجانية، وغاب الرأي العلمي الذي يحدد سبب المشكلة، وانعدم الخيال السياسي المبدع الذي يفتح آفاقا في هذا النفق المظلم، واختفت الرؤى النقدية للمثقف المسؤول، ودخلت بنغازي في هرج ومرج، وخسر الوطن أعز ما يملك من شبابه، وسنكتشف بعد خراب مالطا أن هذه الحرب المجانية لم تكن إلا حربا بالوكالة، وأن إنقاذ بنغازي من “الخوارج”! لم يكن إلا حصان طروادة أخرجته ثورة فبراير من الباب، فعاد إليها من النافذة وربما الأمر أكبر من ذلك.
اللافت في الأمر هو أن حلف الهلاليين جمع بين الشيء ونقيضه، فهذا الحلف قد جمع بين دعاة الفدرالية ومعارضيها، وبين أجهزة النظام السابق وبعض الثوار، وبين دعاة الليبرالية وخصومها، وبين السلفية المدخلية وأعدائها، وبين الأعراب والمغيبين من المدينة، فهذه المتناقضات عجز القانون المنطقي عن تفسير السلك الناظم بينها.
استطاع أحد قوانين الغنيمة، بقدرته التفسيرية، توضيح ذلك الخيط الناظم بين هذه الأضداد، وانتسب لهذا الحلف شخصيات تدعي وصلا بالمشروع الديمقراطي، ويأتي عن يمين هذا الحلف وعن شماله ومن فوقه ومن تحت أرجله دهاقنة المال العام، ومكر المخابرات المصرية والإماراتية، هذا ما بدا، وما خفي ربما يكون أعظم.
ساهم حلفاء الغزو الهلالي بدرجات متفاوتة في الكارثة التاريخية والإنسانية التي سعوا إليها في بنغازي، ولكل طرف حساباته الخاصة، لكنهم يلتقون على مشروع الطمع، وبعضهم يجمع بين الطمع والنهب، وهناك بعض الاستثناءات التي تخرج عن هذا التوصيف، لكنهم كما يجتمعون على الغنيمة يتفرقون عليها، فالمخابرات المصرية تدرك جيدا أن نجاح الانقلاب الدموي الذي قامت به في مصر لا يستقر في وجود مشروع لاستقلال القرار الوطني والتداول السلمي على السلطة في ليبيا، وبنغازي الآن هي الشوكة الواقفة في حلق ذلك الانقلاب الدموي، وهي السد المنيع الواقف ضد مشروع التقسيم واستباحة مصراتة، ووصول الفوضى إلى طرابلس وتونس.
ويكاد يتشابه الدور الذي تقوم به المخابرات المصرية في شرق ليبيا والدور الذي تقوم به إيران في العراق منذ الاحتلال عام 2003، فقد قامت إيران بمجموعة من الأعمال التي تضمن لها الهيمنة على مقدرات العراق، ومن ضمن ما قامت به حملة تفجيرات واغتيالات منظمة لكفاءات الشعب العراقي.
تزلزل كهنوت السلطة النهرية في ثورة يناير، فشرعت في استرداد كرامتها التي فقدتها في ثورة يناير، وألبست الغزو الهلالي ثوب كرامة تفتقدها، ورأت في مشروع الطمع والنهب، المستظل بظل الفدرالية ودعوى الحرب على “الخوارج” فرصة تاريخية تستثمرها لترحيل أزمة مصر الداخلية والهيمنة على مقدرات المنطقة الشرقية.
كما وجدت بعض المخابرات الخليجية في استقرار ليبيا وأهمية موقعها الإستراتيجي المركزي خطرا على مصالحها، فاستقرار ليبيا يجعلها محل جذب للشركات المصنعة الكبرى.
أما عن دعاة الفدرالية، فإن همهم الأساسي هو الاستحواذ على أكبر قدر من الغنيمة، وهناك قلة من المطالبين بالفدرالية مستوعبة للمطلب الفدرالي ولها مبرراتها المشروعة، لكن لا وزن لها في حلف الهلاليين، وكثير منها أدرك الاستغلال الكامن خلف هذا الشعار.
“ما يحير في الحلف الجديد هو موقف من يدعي وصلا بالليبرالية والديمقراطية، وبعضهم كان من المعارضين للمرحلة السابقة، وقد صدعوا رؤوسنا بدولة القانون والديمقراطية، والآن يقفون مع هذا الغزو سرا وعلانية، وأحيانا مخاتلة وتورية”
كما أن القبيلة وأتباع النظام السابق الملتحفين بلحاف الفدرالية لهم حساباتهم المختلفة، فأتباع النظام السابق يتحركون بدافع الثأر من ثورة فبراير، والدفع بالوطن تجاه الفوضى هروبا من العدالة التي ستلاحقهم، أو في أحسن الأحوال قد تواتيهم فرصة الاستحواذ على السلطة، أما القبيلة فتتعامل بصفة عامة مع الشأن العام أيا كان موضوعه كتعامل الغانية مع الأفراح، هدفها هو الغناء في كل عرس بصرف النظر عن هوية العروسين!
وهدف “الجماعة البلطجية” التي استخدمها حفتر من هذا الغزو، كهدف بعض الإعلاميين، فهم لا يردون يد دافع!
أما المداخلة فقد جمعتهم علاقة حميمة مع ما عرف بجهاز الأمن الداخلي، فالفكرة المركزية للنحلة المدخلية قائمة على الخنوع وشرعنة الاستبداد، ولذلك وُصفوا بأنهم مرجئة الحكام وخوارج العلماء، ونشأة هذا التيار كانت ردة فعل على موقف تيار الصحوة الإسلامية المعتدل في السعودية المخالف لتوجهات الحكومة في الاستعانة بقوات الحلفاء لغزو الكويت.
ما يحير بعض الشيء في هذا الحلف الهلالي هو موقف من يدعي وصلا بالليبرالية والديمقراطية، وبعضهم كان من المعارضين للمرحلة السابقة، وقد صدعوا رؤوسنا بدولة القانون والديمقراطية، والآن يقفون مع هذا الغزو سرا وعلانية، وأحيانا مخاتلة وتورية، وربما الذي يفسر موقفهم هو تقاطع “غنائمهم” مع هذا المشروع الدموي.
في بداية ثورة فبراير شاهدنا أسماء مختلفة على القنوات الإعلامية منها: (معارض، وإعلامي، ومحلل سياسي، وباحث، وخبير، ومناضل، ومثقف، وداعية، ومفكر، وشيخ، وحقوقي، وأحد ثوار 17 فبراير) فأين هم الآن؟ وهل ثمة مواقف واضحة لهم؟ هل قاموا بواجبهم تجاه أهلهم المغيبين عن الحقيقة؟ أم هم قد تغيبوا مع المغيبين؟ هل نهر الدماء الذي غرقت فيه بنغازي ودمارها لا يستحق موقفا؟
عندما تقرأ بعض ما يكتبه بعضهم منذ بداية الغزو في مايو/أيار 2014 أو ما يتفوهون به على القنوات الإعلامية، تعرف أن الداء كامن فيما نظنه دواء، وكما يقول أريك جيل: فلتذهب إلى الجحيم تلك الثقافة التي تضاف كالصلصة إلى السمك العفن لتجعله مستساغا.
*كاتب ليبي/ “الجزيرة”