أكثر ما يلفت في تعاطي العواصم المغاربية مع إشكالات أمنية وخلافات سياسية، أنها تعتمد بناء الحواجز والخنادق الترابية لمواجهة أخطار داهمة. أكان في نطاق صراعها مع بعضها، أو في إطار التصدي للعنف والتطرف والإرهاب.
على الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر، يواصل البلدان الجاران تحديهما للطبيعة المشتركة، من خلال إقامة جدران أمنية تحتوي على جهاز إنذار مبكر وتحيط بها الأنفاق والخنادق للحؤول دون تسلل المهاجرين غير الشرعيين ولوبيات التهريب وتجارة المخدرات. لم يكتفيا في غضون ذلك بالأثر السلبي لسريان مفعول إغلاق الحدود الذي سيدخل عامه الواحد والعشرين بعد بضعة أسابيع، ويكرس قطيعة الجوار على حساب مبادئ حسنها، بل اضيف إليه حواجز الأسوار العالية.
غير بعيد عن هذا الانغلاق السياسي والاقتصادي ذي الحمولة الاجتماعية التي فرقت بين الأهالي والأسر المتصاهرة، أعلنت تونس عزمها إقامة جدار مماثل يفصلها عن جارتها الشرقية ليبيا، مع اختلاف الدوافع والخلفيات وأنواع الأخطار. إذ تراهن على أن بناء جدار كهذا سيقلل من انتقال عدوى الإرهاب والتطرف وأعمال العنف. لكن النتيجة واحدة تشير إلى نهاية حلم بناء الفضاء المغاربي الذي يضمن تنقل الأشخاص وتدفق السلع والبضائع والرساميل، وترجح خيار الانكفاء الداخلي ومظاهر العزلة التي تناقض أهداف المشروع المغاربي الذي كان يعول على أن ينجم عنه تكتل اقتصادي وبشري هائل يدافع عن المصالح المشتركة لدول المنطقة.
لماذا تغلبت حالة الاحتراز والحذر، إلى درجة إقامة الحواجز داخل فضاء يشترك ساكنوه في وحدة الدين والهوية واللغة والامتداد التاريخي والجغرافي؟ أقرب إلى الاحتمال أن اللجوء إلى بناء الأسوار والخنادق يكرس إخفاق سياسة حسن الجوار والتعاون في مواجهة التحديات الأمنية والتهديدات الإرهابية. بل إنه يضرب الخيار الوحدوي في عمقه. وفي الوقت الذي قطع فيه الاتحاد الأوروبي الذي تسعى الدول المغاربية إلى تمثل تجربته السياسية والاقتصادية، المزيد من الأشواط على طريق التوسع وإلغاء الحواجز الجمركية وإقرار الوحدة النقدية، في ظل الصعوبات الراهنة، يميل شركاؤه على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط إلى الانعزال أكثر.
ففي الأزمة العميقة بين المغرب والجزائر، تبرز تناقضات في المواقف حيال أكثر من قضية. ليس أهونها ملف الصحراء الذي يلقي بظلال قاتمة على كل المجالات، وإشكالات الحدود البرية المغلقة وتباعد المسافات إزاء التعاطي مع الملفات الأمنية، ومن ضمنها الوضع في الساحل الإفريقي. وأمام المخاوف الناشئة عن تدهور الأوضاع في ليبيا، تقف تونس على خط النار، من دون استثناء أن الجزائريين والمغاربة والمصريين ودول الجوار الإفريقي يشاركونها نفس الشعور الذي يزيد قتامة، كلما ابتعدت فرص إقرار المصالحة والحلول السياسية للأزمة الليبية. غير أن المعطيات كافة تتقاطع عند رجاحة غياب التنسيق الأمني والسياسي، ما دفع الأطراف إلى تجريب حلول الأسوار والحواجز الشائكة.
هل اقتفت تونس أثر المقاربة التي لجأ إليها المغاربة والجزائريون، أم أن أخطار الإرهاب حتمت عليها أن تحمي حدودها وأمنها بهذه الطريقة؟ في أي حال فالإرهاب لم يعد مجرد تنظيمات وأفراد يندفعون نحو تصدير القتل والتدمير فقط، ولكنه في أصله فكر متعصب ومنغلق ومتخلف لا يؤمن بقيم الحوار والتعايش، وبالتالي فإن إقامة الأسوار والحواجز قد تحد إلى حد من انتشاره، لكنها ليست اختراعاً سحرياً.
قد تكون هكذا إجراءات على درجة عالية من الأهمية لبعث روح الثقة والتصدي لتسلل التنظيمات الإرهابية التي تختار دائماً ملاذاتها على قياس المواقع التي تنعدم فيها رقابة الدول واتساع الحدود غير الخاضعة لسيطرة كاملة. إلا أنه وفي غياب حلول سياسية شاملة، يمكن اتخاذها على مستوى القمة المغاربية المؤجلة، لم يبق أمام الدول المغاربية سوى اعتماد كل منها على قدراتها الذاتية، ومن ضمنها تسييج الحدود.
السؤال المحوري، هل الإرهاب في ظل طبعته المشينة يأتي دائماً من الخارج، أم أنه يعشعش في الداخل أيضاً؟ مهما كان الجواب، فالتنسيق المغاربي صار أكثر من ضرورة. وإلا فإن الفضاء المغاربي سيوزع في شكل دول منعزلة. كل طرف فيها يفكر على طريقته بالمنطق الذي يراه مجدياً، وإن كانت سياسة الأسوار لا تشكل بديلاً موضوعياً.
*كاتب صحفي/”الحياة”