في غمرة الكوارث التي تعم مساحات واسعة من الوطن العربي (إن كان ثمة مكان لمصطلح كهذا في سياسات النظام العربي الراهن وتجلياته البائسة) وارتفاع منسوب الخيانة والانسلاخ عن كل ما هو عربي، لصالح اعداء الأمة ومُستعمريها ومُحتلّيها الذين ولغوا في دماء شعوب الأمة ونهبوا ثرواتها وارتهنوها لمخططاتهم ومصالحهم، ناهيك عن اسهاماتهم الواضحة في دعم – إن لم نقل تأسيس – ورعاية منظمات التطرّف والارهاب، التي تسفك دماء ابناء هذه الامة وتُدمّر دولها وتطمس ذاكرتها، ودائماً تُكفّر ابناءها وتريد فرض نسخة مُشوهة ومُتخلّفة من دينها، مستندة على الدوام الى فكر ظلامي وتكفيري وسلفي انتحاري لا يرى سبيلاً لتمرير خطابه سوى قطع الرؤوس وسبي النساء وتدمير الاثار، وتحويل شعوبها الى جموع من اللاجئين والهائمين على وجوههم خوفاً من البطش أو بحثاً عن الماء والغذاء وخصوصاً السلامة الشخصية.
نقول: في غمرة هذه الفوضى التي تبسطها تنظيمات ومنظمات ودول اقليمية (ومنها عربية) ودولية على العرب، من شواطئ الاطلسي حتى مياه الخليج وبحر العرب، وغياب المنطق والعقلانية والخيال السياسي (السليم) عن قرارات وانحيازات وخيارات ودبلوماسية الغالبية العظمى من الانظمة العربية، التي اعلت من شأن الخيارات العسكرية وراحت تراهن على أوهام وخزعبلات ملأت عقولها والعيون، وسقوط المحاولات القليلة التي بذلتها منظمات حقوقية وأخرى معنية بهواجس وهموم المجتمع المدني، يبرز إعلان التوقيع على اتفاق «سلام» في ليبيا الذي وقّعت عليه «بعض» الجماعات الليبية المتحاربة يوم امس في مدينة الصخيرات المغربية، كبارقة أمل يُمكن أن يجري تعميمها على الساحات المشتعلة في المنطقة العربية، بعد أن بدت خيارات بعض المنخرطين في «فوضاها» وكأنها متجهة الى نهاية الشوط في خياراتها العسكرية العبثية، الذي يجزم كثيرون – حتى من داعمي هذه المنظمات الارهابية – انه خيار غير مرشح للنجاح وان احداً في سوريا او العراق او اليمن قادر على الانتصار عسكرياً مهما كابر المكابرون ومهما توفر الارهابيون على اسلحة متقدمة او نجحوا في احتلال هذه المدينة او ذلك الحي من مدينة اكبر، لأن موازين القوى الميدانية هي التي تفرض نفسها في النهاية، ناهيك عن تصدع صفوف الاصدقاء والحلفاء الداعمين الذين لحقت بهم هزائم سياسية (وشخصية) في بلادهم وعلى رأسهم السلطان العثماني الجديد رجب طيب اردوغان، ناهيك عن بروز اتجاهات واضحة وقناعات آخذة في الترسخ بأن المؤامرة التي استهدفت بلادهم (سوريا على سبيل المثال) اكبر واكثر اتساعاً وشمولية واهدافاً استعمارية من حكاية الثورة والديمقراطية والحرية التي طالب بها السوريون قبل أربع سنوات، ثم امسك بها المتآمرون (وجزء منهم سوريون، لكنهم دمى وأدوات) وحولوها في اتجاه اطاحة الدولة السورية، وتقسيم البلاد الى كانتونات عرقية وطائفية ومذهبية.
في ليبيا، اذاً نجح المبعوث الأممي برناردنيو ليون في «جلب» الاخوة الاعداء الى طاولة المفاوضات وصولاً الى وضع تواقيعهم على «الوثيقة» التي يأمل الجميع بأن يلتزم مَنْ وقعّها وخصوصاً اولئك الذين اختاروا عدم التوقيع–وهم هنا الاخوان المسلمون على وجه التحديد–تنفيذها لأن البديل كارثي ولأن مَنْ رفض التوقيع انما يعزل نفسه ويظهر على حقيقته التي دأب على محاولة اخفائها، وهو انه لا يعترف بالشريك الوطني «الآخر» ويريد الاستئثار بالسلطة لنفسه ويعتمد على دعم قوى عربية و»تركية» معروفة، تريد تحويل الهضبة الليبية الى مقر وممر لجماعات الارهاب والتكفير والسلفية الانتحارية ويفسح في المجال لداعش كي يجد لنفسه ملاذاً آمنا ومنطلقاً لنشر الفوضى وسفك الدماء في دول الجوار وخصوصاً مصر وتونس والجزائر بل وجنوباً في الداخل الافريقي حيث بوكو حرام النيجيرية التي بايعت «الخليفة» ابو بكر البغدادي.
«اخوان ليبيا» امام الاختبار الآن، وعليهم مواجهة ساعة الحقيقة، فلم يعد بمقدورهم الادعاء بأن حكومة الثني (طبرق) غير شرعية او ان المؤتمر الوطني العام الذي يدعمها بلا تمثيل او صلاحية، فقد طوى «اتفاق الصخيرات» كل هذا الجدل وأسس لمرحلة جديدة لا فضل لحكومة طبرق (المعترف بها عالمياً) على حكومة طرابلس التي يحميها مسلحو «فجر ليبيا»، حيث ستتولى السلطة حكومة وفاق وطني «لمدة عام» وسيكون هناك رئيس للوزراء ومعه نائبان، وتكون له سلطة تنفيذية، فضلاً عن مجلس تشريعي..
صحيح ان الخشية دائماً من التفاصيل، الا ان النيات الحسنة والحس الوطني المسؤول وإدراك ان ليبيا قد باتت اقرب الى دولة فاشلة (اين منها الصومال؟) منها الى اي شيء آخر، فضلاً عن الاحتمالات الماثلة بغزو عسكري غربي يذريعة وقف موجات الهجرة غير الشرعية، يجب ان يدفع الجميع الى المصالحة والاعتراف بأن ليبيا للجميع وان المنافسة السياسية ونبذ العنف هما الطريق لاعادة بناء (او ترميم) ما تبقى من البلاد، وإلا فإن ما سعى اليه المستشرق اليهودي برنار هنري ليفي والمُتصهين ساركوزي وديفيد كاميرون ومن ورائهم جميعاً في «القيادة من الخلف» باراك حسين اوباما.. سيجد طريقه الى التجسّد على الارض فتضيع ليبيا وينفرط عقدها الوطني والاجتماعي والجغرافي.
*كاتب صحفي/”الرأي” الأردنية