دخلت المجتمعات العربية، بعد انفجارات 2011، التي أطاحت بعض أنظمة الاستبداد، والفساد منعطفاً، يقتضي مراجعات كبرى كثيرة في السياسة والثقافة والمجتمع. ونقصد بها، في سياق التحولات الجارية في أغلب البلدان العربية، القيام بمواجهات ثقافية وسياسية، لفحص المواقف والخيارات التي كانت سائدة في مجتمعاتنا، وإعادة النظر فيها، قبل هبوب رياح التغيير العاتية. وتكون المواجهات المقصودة مع الذات أولاً، كما تكون مع الآخر والآخرين، لأننا، اليوم، في حاجة ماسةٍ إلى مراجعة أساليبنا في التعامل مع ذواتنا، ومع العالم من حولنا، لعلنا ننخرط، فعلاً، في تصحيح صور الخلل السائدة في كيفيات تعاملنا مع الظواهر والأحداث.
يستوعب مبدأ المراجعات الكبرى محاولاتٍ، تهدف إلى التخلي عن الأحكام السائدة والتنميطات المعتادة، سواء في مجال النظر أو في مجال العمل السياسيين. إنه يستوعب التخلي عن الدوغمائيات الفكرية والسياسية، التي تصنع المواقع والمواقف والمبادئ، بلغة القطع والحسم واليقين. ففي عالمٍ أصبحت وتَائرُ تَغيُّرِه سريعةً، وفي مجتمعاتٍ أصبحت تحتل فيه تقنيات الاتصال والتواصل مكانةً ما تفتأ تتسع، مُكتَسحةً فضاءات الواقع والافتراضي، وبصورةٍ غير معهودة في التاريخ، فإن الركون إلى مواقف نهائيةٍ لا يعبر عن التفاعل الإيجابي المطلوب مع أنماط التغيير الحاصلة اليوم، في مجتمعنا، وفي العالم.
يقوم مبدأ المراجعات الكبرى على مبدأ آخر، يعدُّ في تصورنا، قاعدتَه الأساس. يتعلق الأمر بالتصالح مع الذات. لكن، ماذا نقصد بمفردتي التصالح مع الذات؟
يشير مفهوم التصالح مع الذات، في الراهن العربي، إلى فعلٍ يُقِرُّ بأنه لا يمكن تجاوز مختلف أشكال الارتباك والهوان، الحاصلة اليوم في المجتمعات العربية، إلا بالاعتراف، أولاً، بأن كل ما يحصل في مجتمعاتنا تَشْرِطه آلياتٌ تاريخية مُحددة، تُعد في مجموعها مُحَصلةَ صراعنا التاريخي مع أوضاعنا التاريخية العامة، ومآلات الانفجارات التي تلاحقت في بلداننا، في السنوات القليلة الماضية.
ولتوضيح الأمر، نتوقف أمام سؤال الهوية، الذي بات من بين الأسئلة الأكثر حضوراً. وفي هذا المنعطف التاريخي الجديد من تاريخ مجتمعاتنا، يلجأ إلى مفهوم الهوية، للحديث عن الذات بكثير من التهويمات، وصُور الهروب إلى الوراء، أو إلى الأمام، ومن دون حسابٍ لا لمتغيرات الواقع الفعلي، ولا لمعطيات التاريخ العربي في جريانه.
يستخدم مفهوم الهوية، والهوية العربية الإسلامية، للإشارة إلى معطياتٍ ينظر إليها ثوابتَ لا تاريخية. ونعتقد أن مفهوم الهوية العربية يحيل، في العمق، إلى اسم جَمْعٍ يُركِّب روافدَ صانعةٍ لصيرورةِ ذات، ما تفتأ تتشكل في التاريخ. ومن تَمَّ، فإن ما ينظر إليه ثوابت في خطاباتٍ أيدولوجية سائدة في الثقافة العربية يعد سلسلةً من الحلقات المتواصلة في تكوين أي مسارٍ تاريخي مُتجدِّد، حيث تراكم الحلقات طبقات متعددة، الأمر الذي يساهم في تلوين الشخصية التاريخية للشعوب بسمات متعددة، قابلة للتغيير والتجديد والتجاوز.
التصالح مع الذات إقرارٌ بحالٍ مُحدَّدة، واعترافٌ بهويةٍ في طور التشكل المتواصل. وإذا كان الرافد الإسلامي، في حضوره التاريخي المتعدد، قد امتلك ويمتلك حضوراً قوياً في أزمنةٍ مُحدَّدةٍ من تاريخنا المتواصل، فإنه لا ينبغي النظر إليه بصيغة مطلقة، ذلك أن الرافد الذي ساهم، بدوره، في التحولات التي لحقت مجتمعنا في تاريخنا المعاصر، ومنذ ما يزيد عن قرن. ونقصد بذلك المشروع الثقافي الحديث والمعاصر، ما شكَّل، ويشكل، زاداً رمزياً وتاريخياً في حاضرنا ومستقبلنا. ومن هنا، ينبغي النظر في تصورنا إلى تعدد الروافد، باعتباره الوسيلة المساعدة على إغناء ذاتنا في التاريخ.
يساهم التصالح مع الذات في عملية اكتشافها، حيث يحصل الانتباه إلى الطبقات التاريخية الجديدة التي تساهم، اليوم، في تحويل ثقافتنا وتطويرها، بسعينا إلى التفاعل الإيجابي المُنْتِج مع جوانبَ من المشروع الثقافي المعاصر.
نعتمد في إعادة اكتشاف ذاتنا على الأسئلة الجديدة التي تملأ حاضرنا، حيث تسمح عمليات إعادة البناء المذكورة، في تغيير كثير من مقومات ذاتنا التاريخية. والذين يتنكَّرُونَ لما حدث في الأزمنة المعاصرة، ويرفضون التغيير الحاصل، بدعوى المحافظة على هويتنا، لا يلتفتون إلى فعل الزمن ومفعوله في التاريخ، ولا ينتبهون إلى أن مصير الثقافات والعقائد ومختلف أشكال الإنتاج الرمزي يرتبط، في العمق، بالأدوار التي يمارسها هذا الحضور في حياة الناس، وفي تجاربهم التاريخية.
نواجه، اليوم، في واقعنا التاريخي إشكالات جديدة. ترتبط بواقعنا المحلي، كما نواجه أسئلةً ترتبط بموقعنا في العالم. ونواجه، قبل ذلك وبعده، إشكالات العولمة الثقافية بالذات، حيث تتجه الثقافة في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات، وكشوف الوسائط الجديدة، وضعاً ثقافياً جديداً، يدعونا إلى البحث في مختلف الإشكالات السياسية والمعرفية والأخلاقية، والتي تطرحها التحولات المشار إليها على الأجيال الجديدة، من شباب القرن الجديد وأطفاله.
ولعل هذا الذي نحن بصدده الآن، والمندرج في سياق ما بعد عواصف 2011، يدعونا ضمن عمليات مصالحتنا التاريخية مع ذاتنا، إلى تجاوز الاكتفاء بالتغني بالهوية الصماء، المعزولة في أذهاننا، الصافية في تكونها وتركيبها الثقافي، التاريخي أيضا في أذهاننا، لعلنا نتمكن من انخراطٍ فاعلٍ ومبدعٍ في عمليات التمثل التاريخي، لمكاسب الأزمنة المعاصرة في السياسة، ومجالات الفكر والحياة.
“التجديد العربي”