1 عندما كان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يملأ الدنيا صراخا ويكاد يناطح السماء غرورا ورغبة في إظهار قوته ووجوده، كان التلفزيون الجزائري (بالأحرى القائمون على تسويق صورة الرئيس في هذا التلفزيون) يصرّون على بث صور استقبالاته الرسمية، صماء مثل أفلام تشارلي تشابلن.
وعندما أصبح هذا الرئيس مقعدا منهكا غير قادر على استرسال جملتين مفيدتين، قرر المسؤولون عن التسويق أن يبثوا صور استقبالات بوتفليقة مصحوبة بصوته وصوت ضيفه.
الجزائريون يعرفون أن القصد في هذا التحول هو إظهار أن الرئيس في صحة جيدة وقادر على خوض نقاشات مع ضيوفه كما كان من قبل. والأهم: انه لا يزال صالحا لقيادة البلاد. حدث هذا الأسبوع الماضي مع زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري. ومن حيث أراد المشرفون على هذا العمل أن ‘يكحلوها عَمَوْها’. ليتهم واصلوا على طريقة أفلام تشابلن.
أثناء استقباله كيري، بثّ التلفزيون الجزائري نحو دقيقة من الحديث بينه وبين بوتفليقة. يقول بوتفليقة لضيفه بلغة فرنسية بالكاد مسموعة وعبر مترجمة، أن الجزائر تحتاج لمساعدة واشنطن. يسأل كيري: ماذا تريدوننا أن نفعل.. ماذا تنتظرون منا بالضبط؟ فيرد الرئيس: التكنولوجيا والمعلومات في الساحل (الإفريقي).. في وقتها المفيد.
إلى غاية تلك اللحظة، كان الجزائريون يعيشون في غرور أن بلادهم هي التي تمدّ الآخرين بالمعلومة الاستخباراتية لأنها تقود الريادة في محاربة الإرهاب في شمال إفريقيا والساحل، وأن كل الدول تخطب ودّها وتنتظر مساعدتها ومشورتها.
أمضى الجزائريون، بنخبهم وعامَّتهم، عشرين سنة يشترون من إعلامهم ومسؤوليهم السياسيين، أسطوانة الريادة في محاربة الإرهاب، وحيازة المعلومة واستغلالها، حتى جاء سؤال كيري.
واحدة من اثنتين: إما أن أسطوانة الريادة، مجرد أكذوبة عمّرت عقدين وآن لها أن تنتهي. وإما أنها حقيقة، وبوتفليقة يفتقد للمعلومة حول ما هو جارٍ، أو غابت عنه الدقة في تبليغ أفكاره.
2
بحلول هذا الشهر تكون قد مضت سنتان على اختطاف سبعة دبلوماسيين جزائريين كانوا يعملون بقنصلية بلادهم في غاو بشمال مالي. أفرج الخاطفون، وهم من الإرهابيين المقربين من القاعدة، عن ثلاثة وقتلوا واحداً وأبقوا على ثلاثة. بين كل فترة وأخرى تتسرب معلومات عن أن الثلاثة على قيد الحياة وعن قرب الإفراج عنهم، وأن الحكومة تبذل جهودا حثيثة لإعادتهم سالمين. وأترك للقارئ تخيّل مسلسل الجحيم المستمر الذي تعيشه عائلات هؤلاء المساكين منذ 24 شهرا.
بمناسبة الانتخابات الرئاسية، وفي سياق حملة (المرشح) بوتفليقة، تذكرت الخارجية الجزائرية عائلات هؤلاء الثلاثة فاستقبلهم الوزير ليبلغهم تعاطف (الرئيس) بوتفليقة وحرصه على متابعة حالتهم.
لا أحد يجادل في حساسية الموضوع وخطورته وحاجته إلى أقصى درجات الكتمان. لكن من حق أيٍّ كان أن يجادل في أسباب بقاء هذه المحنة تراوح مكانها كل هذا الوقت، وواقع الحال أن هؤلاء المساكين مخطوفون على مرمى حجر من حدود الجزائر الجنوبية، وفي منطقة تعتبر الامتداد الجغرافي الطبيعي للجزائر، ملعبها الأول، وعلى يد عصابة معروفة للمخابرات الجزائرية ربما بالأسماء. ماذا كان سيحدث لهؤلاء وكم ستطول محنتهم لو اختطفتهم جماعة أبو سياف في الفلبين أو أبو مصعب الزرقاوي في صحراء الأنبار؟
لعل بوتفليقة أصاب عندما سأل كيري عن المعلومة الاستخباراتية في الساحل. فليس هناك دليل أقوى عن حاجة الجزائر لها من محنة الدبلوماسيين.
3
في أعقاب أعمال العنف التي شهدتها مدينة بجاية، عاصمة القبائل الصغرى، يوم السبت وأسفرت عن عشرات الجرحى وحرق دار الثقافة وتخريب منشآت أخرى، وكذلك إلغاء تجمع انتخابي كان سيرأسه عبد المالك سلال مدير حملة الرئيس بوتفليقة، في أعقاب ذلك صرّح سلال بأنه ومعسكره دعاة سلم وخير وديمقراطية، والآخرون دعاة عنف وفتنة. وهو يدلي بكلامه، اجتهد سلال كثيرا ليتقمص دور الضحية، مستغلا الأحداث تلك إلى أقصى درجة.
إذا كان هؤلاء دعاة سلم، فماذا تركوا للعنف والعنيفين. أليس ترشح بوتفليقة في هذا العمر والحالة الصحية المأساوية أكبر ‘فعل عنف’ يُرتكب بحق الجزائريين؟ أليس تسخير أموال الدولة وإعلامها ورجالها ونسائها في خدمة مرشح في هذه الحالة المثيرة للشفقة أكبر عنف بحق الجزائر؟ إذا كان سلال يقول علنا ‘عندنا في قسنطينة نقول الشاوي حاشا نعمة ربي’ ثم يصنّف نفسه داعية سلم، فماذا يجب أن يفعل أو يقول إنسان يُصنَّف داعية عنف؟ إذا كان وزير في الدولة الجزائرية يخطب في الناس ويقول ‘احنا مع بوتفليقة ويلعن أبو لي ما يحبناش’ (صيغة الكلام هذه تسمى في الجزائر ‘تبراح’ وتـُستعمل في الكباريهات مصحوبة بالأوراق النقدية ترشق على أجساد الراقصات)، إذا كان هذا داعية سلم، فماذا ترك لدعاة العنف؟
هذه أمثلة من أخرى كثيرة تجعل ما حدث في بجاية مجرد تسلية من شبان غاضبين كافرين بالسلطة ورموزها. الذي حدث في بجاية هو ثمرة عشرين سنة من عنف السلطة الناطق والصامت.. من التهميش، الإقصاء، الفساد، الحرمان، القمع الإداري، الظلم بكل أنواعه. عشرون سنة لم تترك للجزائريين طريقة للتعبير غير التي شاهدناها في بجاية. طيلة هذه المدة لم تخاطب هذه السلطة شعبها إلا بخراطيم مياه الشرطة والعصي والغازات المسيلة للدموع.
4
شعرت بالشفقة على فنان جزائري عظيم اسمه محمد الطاهر الفرقاني. طفرة موسيقية يصعب أن تتكرر، مايسترو موسيقى وغناء اشتهر بالمالوف والطرب الأندلسي لأكثر من نصف قرن. يقال عنه إنه قادر على أن يطرب أمواتا.
هو الآن في السادسة والثمانين، عاش حياته ‘بالطول والعرض’، غنّى في كل العالم ولكل الناس. اكتسب مجدا لا يضاهى وجمع ثروة طائلة، ولم يعد يحتاج لشيء أو لأحد.
على الرغم من ذلك شوهد في قناة تلفزيونية مملوكة لجماعة الرئيس وهو يعزف لبوتفليقة ألحانا وكلمات غير موزونة، يشجعه ولداه العازفان أيضا. كانت جلسة بائسة بكل المقاييس: المكان، الزمان، الموضوع، المضمون.. كل شيء. لا شيء كان يليق بالفرقاني.
ما الذي يدفع رجلا بهذه القامة والتاريخ الغنائي والموسيقي للتصرف هكذا؟ ربما الأولاد زجُّوا به هناك. ربما السن وتراجع قدرة الإدراك. ربما الخوف من المجهول. ربما الثقة في رئيس يعتقد أنه هو الدولة، على الرغم من صحته المنهكة. ربما الطمع. ربما الحرص على البقاء قريبا من دفء السلطة. ربما الحب صادقا لبوتفليقة. ربما هي العبقرية في الغناء والعزف، ولما يتعلق الأمر بالسياسة، لا فرق.
أسئلة وأجوبة تجعل المرء يحزن على الفرقاني، لأنه الفرقاني وليس أحداً غيره، ولأنه انتهى نهاية لا تختلف كثيرا عن نهاية بوتفليقة. أشفق عليه بحق، مثلما أشفق على بوتفليقة من بوتفليقة.
“القدس العربي”
اقرأ أيضا
فاطمة الزهراء بناصر تحضر لعمل غنائي جديد بعنوان “زينة عبدة”
تستعد الفنانة المغربية فاطمة الزهراء بناصر، خلال الأيام القادمة، لإصدار أغنية جديدة تحمل عنوان “زينة …
هل سيشكل اعتراف الصين وروسيا وبريطانيا بمغربية الصحراء مفاجأة حقيقية للنظام الجزائري؟!
بقلم: هيثم شلبي لا يزال جنرالات الجزائر وإعلامهم “يتلهّون” بحكم المحكمة الأوروبية الخاص بالصحراء المغربية، …
بنسعيد: نعمل على تقوية أسس صناعة تنتصر للموروث الثقافي المغربي
أكد وزير الشباب والثقافة والتواصل، محمد المهدي بنسعيد، بتطوان، أن المسرح هو قلب الثقافة النابض …