بقلم: د. عبدالحق عزوزي*
استقالة السويسري جوزيف سيب بلاتر من الفيفا كانت بمثابة سقوط نظام سلطوي ديكتاتوري في كتابات أعرق الصحف الأوروبية التي صفقت لهذا الزلزال الذي أصاب عمالقة المنظمة الكروية العالمية، وكانت الصحف البريطانية هي الأكثر إشادة بعد أن اتهمته ولسنوات بحرمان بريطانيا من تنظيم كأس العالم. فصحيفة «الصن» الشعبية المقروءة جداً كتبت «لقد نلنا منه» في إشارة إلى ما كان قد تلفظ به الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عند إلقاء القبض على صدام حسين. وثمة عناوين أخرى مشابهة يمكنك أن تقرأها في جل الصحف الغربية.. ولكن تصور معي لو أن رئيس الفيفا وأعضاءها كانوا من أصول عربية مسلمة! أظن أن الهياج العالمي في حق هؤلاء كان سيتضاعف، ولألصقت بالمسألة لا محالة صور نمطية، ولقورنت بنوعية بعض الأنظمة السياسية العربية، ولسمعنا بأنهم استنساخ لانعدام الشفافية الذي ينخر الجسم العربي، والذي يؤثر بدوره على نوعية المجال السياسي العام، ولكن كل هذا لم يحدث!
وبلاتر المسمى بـ«الأخطبوط» و«نابليون» و«الثعلب الصغير» يقود الفيفا منذ سنة 1998 ومسيرته معروفة بالدهاء، والعلاقات الدولية جعلت من الاتحاد الدولي لكرة القدم أغنى منظمة رياضية أو حتى غير رياضية، ولكن موازاة مع ذلك، فإن ذلك الدعم الذي كانت يدفع في بعض الأحيان من جيوب دافعي الضرائب في دول عديدة كان يستعمل لتوسعة رقعة الفساد في المنظمة العالمية الكبرى، خاصة أن اللجنة التنفيذية بأعضائها العشرين كانت في البداية هي المتحكمة في كل الأمور.
إنه الفساد العالمي! ففي تقرير نشرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD فإن الرشاوى المتداولة عالمياً في مجال الشركات العملاقة مثلاً يعتبر قاعدة منتشرة وفي بعض الأحيان دون علم مديريها، ونسبة الرشوة في عملية تجارية كبيرة قد تشكل 10,9 في المئة من القيمة الإجمالية للعملية التجارية و34,5 في المئة من صافي الأرباح أي تقريباً 13,8 مليون دولار في كل رشوة. وبسبب ضبابية العمليات المشبوهة ودهاء المرتشين العالميين فإن هذه النسبة لا تشكل إلا جزءاً من الحقيقة، والأدهى من ذلك أنها منتشرة في دول القانون والمؤسسات الديمقراطية، لكي تفوز شركاتها بعقود ذات مردودية كبيرة.
وهذه الأرقام والمعطيات الخطيرة معروفة عند أهل الاختصاص، وهي مسائل جارٍ بها العمل حتى في بعض الدول التي تقود تحقيقات في حق المتهمين بالفساد في قلب الفيفا.. وبالدارجة المغربية هناك مثل يقول «دير عين ميكة» أي أنك تعرف كل شيء ولكن عليك أن تعطي الانطباع بأنك لا تعرف أي شيء لكي تنجح.. وهذا المثل يلخص تجليات النظام الاقتصادي العالمي، بما فيه النظام الرياضي، لأنه بالدرجة الأولى نظام اقتصادي متشعب يجلب المليارات من الدولارات، والملايين بل المليارات من المشاهدين في العالم، ويشغل الكثير من الناس. وهذا النظام الرياضي العالمي كان عليه أن يساهم في تحقيق أهدافه المسطّرة منذ البداية ليوحد ما فرقته ويلات الحروب والسياسات والتطاحنات المقيتة. ولكن حب المال يعمي! ولا يهم ما تلفظ به بلاتر عندما قال: «لن يستطيع أحد أن يقنعني بأنها كانت مجرد مصادفة أن يحدث الهجوم الأميركي قبل يومين من انتخابات الفيفا! وبعد ذلك رد فعل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ورئيسه ميشل بلاتيني. لا يستطيع أحد أن يقنعني.. لست متأكدا، لكنه ليس أمراً جيداً». قبل أن يتابع: «لماذا لم تفعل الشرطة ذلك في مارس الذي شهد الاجتماع نفسه. في هذا الوقت كان هناك عدد أقل من الصحافيين».
طبعاً إنها حسابات على أعلى مستوى، والتوقيت مدروس جداً ولا يستطيع أي متتبع لبيب إنكار ذلك، ولكن هذه الفضيحة توضح كيف يسير العالم، وكيف أن المصالح المالية والذاتية تغلب على المصالح العالمية، وكيف أن التقارير الدولية التي تتهم الأوطان العربية بتجذر الفساد الاقتصادي والاجتماعي تنسى أو تتناسى ما عليه حال بعض الدول المتقدمة والمنظمات الدولية العريقة كالفيفا التي تعدى عمرها القرن.
انفجار الغطاء الأخلاقي في الفيفا منذر بسنوات عجاف للعديد من الهيئات المشابهة، والهياكل الاقتصادية العملاقة، داخل النظام الاقتصادي العالمي.. ولكن أخشى أن اللوبيهات المتواجدة داخل هذا النظام المتشعب قد تقبر أي ملف فساد في أي وقت من المتابعة، تماماً كما هو حال الممثل الأميركي نيكولاس كيج في فيلمه المشهور Lord of War الذي قضى حياته في الاغتناء ببيع الأسلحة الفتاكة إلى دول إفريقية متعددة، وكانت الأنتربول تلاحقه إلى أن تم كشفه والقبض عليه، ولكن بعض المكالمات الهاتفية البسيطة كانت كافية لقبر الملف.. ولعل هذا هو نوع النظام الاقتصادي العالمي للأسف!
* رئيس المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية/”الاتحاد”