بقلم: عائشة عبدالله تريم
ماذا يفعل الإنسان عندما يكون البحر من أمامه والعدو من ورائه؟ لا شك في أن البحر يكون أحياناً أكثر رحمة من البشر.
في العام المنصرم، شهد البحر الأبيض المتوسط فرار الألوف المؤلفة من البشر الذين اختاروا المغامرة والمجازفة في عباب البحر متحدِّين أمواجه الصاخبة، على أن يبقوا تحت رحمة الموت والجوع والفقر، وسط مجازر من كلِّ الأنواع يرتكبها في حقهم من يفترض أن يقوموا بحمايتهم.
ومع أن معظم الهاربين كانوا على يقين بأنهم يفرون من الموت إليه، لكنهم فضلوا خيار الغرق في ظلمات البحر على البقاء بين فكيّ قرش أسنان حربٌ وطغيانٌ تنهش بلادهم.. ومع أن الفارين إلى المصير المجهول لا يملكون إلا قوارب صغيرة لا تتحمل أعدادهم الكبيرة، لكنهم يغامرون ويتحدون عساهم يجدون من يلقي إليهم بقارب النجاة. لقد أفادت تقارير وكالة الأمم المتحدة للَّاجئين في العام الماضي، بأن أكثر من 219 ألف مهاجر وصلوا إلى سواحل أوروبا، وأن هذه الأعداد ستظل في تزايد كبير ما دامت الأوضاع المتدهورة في بلادهم تدفعهم إلى الرحيل. ذلك أن معظم المهاجرين في قوارب الموت يفرّون من بلدانٍ تمزقها الحروب ويفتتها الفساد سواء في الشرق الأوسط أم في أفريقيا. كذلك، فإن الربيع العربي الذي لم يزهر بألوان الربيع لأن تربته لم تروَ إلا بالدم ولأن بذوره لم تُنبت سوى الدمار والفوضى والتشرذم، قد رفد البحر بأعداد كبيرة أيضاً من الفارين إلى المجهول.
وها هو البحر يلتهم أعداداً كبيرة ممن قرروا ركوب قوارب الموت ولم يكن أمامهم من خيار سوى الغرق في المياه بدلاً من الغرق في الدم، ومن ينجُ من هؤلاء يتعرض لمشكلات كثيرة في بحر تتلاطم فيه أمواج تجارة رابحة أربابها مهربو البشر!
وهكذا، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام موجة بشرية عملاقة تضرب شواطئه. إنهم بشر لهم حق اللجوء ولا يجوز حرمانهم من هذا الحق… لكن هذه المشكلة التي تتعقد أكثر فأكثر، مرشحة للتفاقم ما دامت الحروب والصراعات وانتهاكات حقوق الإنسان قائمة.
هل تدرك القوى التي تتسبب في ما يحدث من عدم استقرار ودمار تتسع دائرته يوماً بعد يوم عاقبة أفعالها؟ وهل تعي هذه القوى أن الجغرافيا عامل حاسم يتحكم في انتقال المشكلات السياسية من دولة إلى دولة أخرى مجاورة؟
إذا كانت غريزة حب البقاء والهروب من الخطر هي التي تدفع البشر إلى الفرار من مبنى تشتعل فيه النيران، فماذا يحدث عندما تخفق قرارات المسؤولين السياسية فيفشلون في التكهن بما قد يحدث في المستقبل؟ سوف يهرب الناس حينها من اشتعال قارات بأكملها ويلجؤون إلى بلدان يظنون أنها محصنة من كوارث تسببها أيدي البشر.
عندما يحترق جزء من العالم ويتحول إلى أرض معركة لا يحكمها أي قانون غير قانون الغاب، يصبح الإنسان في ظل غياب الحكومات عرضة للقتل والإهانة على أيدي «بلطجية» ومقاتلين مرتزقة.. تمحى سجلات من التاريخ ويتم إغراق الأمل في أنهار من دماء الأبرياء، فلا يبقى إلا البحار المفتوحة وما وراءها ملجأ وملاذاً. وهكذا، تبقى مراكب الموت تتلهف على من يركبها من أولئك الذين يستعدون لتحمل المشاق والمعاناة والألم إلى ما لا نهاية.
يتوقع الاتحاد الأوروبي زيادة في أعداد المهاجرين واللاجئين، لكنَّ ما يفعله الاتحاد ودول أخرى في العالم تستقبل الفارين من الأزمات والحروب، ليس إلا حلاً مؤقتاً واستجابة إنسانية عاجلة، وهذا ليس سوى انعكاس لما تفعله الحكومات التي تتصرف وفق مبدأ «لكل فعل ردّ فعل» فيكون العلاج المؤقت للأزمة بالإسعافات الأولية بدلاً من البحث عن الدواء في حلول جذرية ذات مفعول طويل الأمد. خصوصاً أنَّ تدفق المهاجرين يستمر في ظل معاناة الاتحاد الأوروبي من مشكلات اقتصادية وحالات إفلاس وتراكم ديون تشكل في حد ذاتها أزمة.
والحل إذاً؟ …على الحكومات في البلدان التي تعاني من امتداد آثار الحرب إلى أراضيها أن تزيد من الضغط على العالم كي يتعامل مع الأزمة بجدية أكثر ويجتث المشكلة من جذورها، وذلك باتخاذ التدابير الفعَّالة لوضع حد للحروب المشتعلة ومدِّ يد العون لمن يحترقون بنيرانها كي يتمكنوا من إعادة بناء حياتهم ويتوقفوا عن ركوب البحر في قوارب الموت التي يستغلها تجار البشر.
القانون يفرض على الحكومات أن تميِّز بين مهاجرٍ ولاجئ، مهاجرٍ يسعى إلى تحسين أوضاعه المعيشية وتحقيق طموحه، ولاجئ يسعى إلى النجاة من فكيّ موت محتم في بلاده.. من يركب قارب الموت ذاهب إلى مكان ما على الأرض ليحقق فيه أحلامه وتطلعاته يعتبر مهاجراً، ومن يعبر البحر تحت رحمة الموت ليس مهاجراً من بلده باحثاً عن مستقبل مشرق وحياة أفضل من التي يعيشها، هو لاجئ فارٌّ من نار لا تعرف أخضر ولا يابساً، لا بشر ولا حجر. الحكومات تسمّي لتفرق ولكن سواء كان القادم إلى بلد غريب مهاجراً أم لاجئاً، لا يجب أن يفقد حقَّه كإنسان، فالأطفال والنساء والمستضعفون من الرجال، عندما يركبون قوارب الموت قد يحلمون بغدٍ أفضل، لكنهم لا يواجهون الموت في البحر لأجل تحسين أوضاعهم المعيشية حتماً!
كيف يمكننا التفكير فيما إذا كان الأشخاص الثمانمئة الذين انقلب بهم المركب ولقوا حتفهم في غياهب مياه البحر الأبيض المتوسط مهاجرين أم لاجئين؟ «ثمانمئة» ليس مجرد عدد يظهر على شاشات التلفزة، بل هو عدد يدل على أن ثمانمئة نفس بشرية قد صارعت الموت قبل أن يصرعها بسبب سياسيين قطَّعوا وشرَّحوا بلدانهم في محاولة لإعادة لصقها بالطريقة التي يرتأونها فحوَّلوا عالمهم إلى وحش كاسر لن يتمكن حتى صانعه من السيطرة عليه!
خفر السواحل كانوا يراقبون الفارين من الموت وهم يغرقون، لكنهم لم يحرِّكوا ساكناً لأنهم لم يتلقوا الأوامر بإنقاذهم، فالقانون قانون! وهكذا راح الناس يتوارون عن الأنظار ببطء في عمق المياه قبل أن يبتلعهم البحر الذي سيظل ينادي: «هل من مزيد؟».
“الخليج”