تابعت كما تابع التوانسة زيارة رئيس حكومة بلادنا السيد المهدي جمعة لخمسة من دول مجلس التعاون الخليجي الستة وكان بودي تلقائيا أن تعلن حكومتنا على إثر هذه الجولة عن نتائجها وعن نجاح السيد جمعة فيما فشل فيه أسلافه من رؤساء الحكومة منذ 14 يناير 2011 ولم يقنعني وزير خارجيتنا ولا السيد الورفلي في اللقاء الصحفي الذي عقداه لتبيان النتائج ذلك أن علاقات بلادنا مع الخليج تعتبر أساسية بالنسبة لاقتصادنا وسياحتنا وسياساتنا بحكم ارتباطنا معها بعلاقات تقليدية منذ أيام بورقيبة وبن علي وبحكم التزامنا بميثاق جامعة الدول العربية وبطبيعة الاحترام الذي تحظى به تونس منذ استقلالها من قبل دول الخليج رغم أن تونس تعتبر لدى جانب هام من الرأي العام الخليجي دولة قريبة حضاريا من النمط الغربي الأوروبي وهو ما لم يقطع صلتنا برقعتنا الحضارية العربية الإسلامية ولم يفسد لودنا قضية مهما كان إصرار التغريب البورقيبي المتحدي بلا لزوم على قطع أواصرنا المشرقية والتوجه عموما للغرب في كل سياساتنا. فلبنان مثلا ظلت أكثر منا التحاما بالنمط الغربي بسبب مسيحية حوالي نصف اللبنانيين ولكنها كانت على مدى عقود مزار الخليجيين المفضل ومركز استثماراتهم قبل أن تعزلها عن هذه المكانة حرب أهلية طويلة وكذلك مصر برصيدها الثري من الثقافة والسبق إلى الخليج منذ الخمسينات بالرعيل الأول من المدرسين الرواد الذين شاركوا في تأسيس أولى المدارس والجامعات في الخليج حين كانت الحياة في الجزيرة العربية ليست باليسر الذي نعرفه اليوم وجاءت معهم أيضا طلائع الفلسطينيين بزادهم العلمي والمعرفي حين هجرهم اليهود من وطنهم واستقروا في بلاد الخليج مع أول عهد النفط إلى اليوم واندمجوا في مجتمعاتها وخدموها بأمانة جيلا بعد جيل.
ويذكر التوانسة (و المغاربيون عموما) أن معرفتهم بالجزيرة العربية حتى السبعينات لم تكن تتجاوز فريضة الحج من خلال توديع واستقبال حجيجنا الميامين وبما يعودون به من أداء مناسك الحج من مسبحات وماء زمزم وبخور وسجاجيد الصلاة ولم نكن نعرف عن بلاد الحجاز غير أفلام مصرية قديمة بالأبيض والأسود عن صدر الإسلام وتعذيب بلال الحبشي بأيدي المشركين وهو يردد: “أحد أحد “وانطلاق الفتوحات وبناء الخلافة الراشدة. وللأمانة التاريخية يجب أن نشير إلى حلقة محورية وفاصلة من تاريخ التعاون التونسي الخليجي عندما أوصدت دول أوروبا وفرنسا بالذات أبوابها وحدودها أمام اليد العاملة والكوادر التونسية والمغاربية عموما منذ أواخر السبعينات فرفع الاتحاد الأوروبي في وجوهنا شعار (الهجرة صفر) بعد أن كان التونسيون لا يتصورون الهجرة للعمل إلا نحو الدول الأوروبية وفي بداية الثمانينات عين بورقيبة صديقنا العروبي محمد مزالي رئيسا للحكومة ودعاني كما دعا غيري من رفاقه لمؤازرته وتحمل بعض المسؤوليات السياسية معه فاجتهدنا لنصرة اللغة العربية من غبن الفرنكوفونية اللقيطة واقترحنا على الحزب الدستوري رؤية سلمية مدنية للعامل مع التيار الإسلامي وأصلحنا ما استطعنا من أمر الاتحاد العام التونسي للشغل بمساعدة الطيب البكوس على إنقاذ المنظمة المناضلة في مؤتمر قفصة الذي حضرناه ومن جهة أخرى فكرنا مع الصديق محمد مزالي أيضا في طرق أبواب الخليج لتشغيل الفائض من الكفاءات التونسية في دول مجلس التعاون الذي أنشأ في نفس السنة التي تولينا الحكم فيها سنة 1981 فبادر الأستاذ محمد مزالي إلى تنظيم جولة خليجية رافقته فيها من جدة إلى ابوظبي إلى الدوحة إلى المنامة إلى الكويت ثم أفردنا سلطنة عمان بزيارة فيما بعد. وإلى اليوم يعترف لنا أهل المروءة من المقيمين في الخليج بهذه المبادرة الكريمة التي تحولت اليوم إلى ظاهرة وطنية جعلت التوانسة يساهمون في تنمية وتقدم الدول الخليجية الشقيقة وكما كان يقول لي شخصيا أحد أفضل قادة الخليج فإن التونسي يتميز بالكفاءة والأمانة والحمد لله وهو شرف نعتز به. ولكن النتائج الراهنة تبقى دون المأمول لأننا مع الأسف في عهد بورقيبة أثرنا حفائظ دينية كنا في غنى عنها ما عدا الصداقة التي ربطت بين المغفور لهما الزعيم بورقيبة والملك الصالح الشهيد فيصل بن عبد العزيز حين اشتركا في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي ردا على الغوغاء القومية للمرحوم جمال عبد الناصر الذي سخر جامعة الدول العربية لممارسة ضغوط ودسائس ضد الأنظمة العربية التي لا تقبل فرعنة من أحد وكان إعلام عبد الناصر غفر الله له يقسم الدول العربية إلى تقدمية ورجعية من دون وجه حق. ثم حل بتونس عهد زين العابدين بن علي فكانت علاقات تونس بدول الخليج تنقسم إلى قسمين: قسم لا يتعدى الصفقات الاستثمارية في ظروف غامضة لم تراع فيها مصالح الشعب التونسي (مثل مشروع سما دبي) وقسم يرتكز على قناة الجزيرة وظهور بعض المعارضين التوانسة على شاشتها مع مسلسل سحب السفراء وقطع العلاقات وهو ما تضررت منه بلادنا بكل المقاييس ثم جاءت الثورة التي حاولت حكوماتها الأولى إصلاح ما فسد في هذه العلاقات ولكن نزعات مضادة للثورة استهدفت بعض دول الخليج بالنيل من حكامها وأنماط حياتها في الإعلام أو في بيانات الأحزاب العلمانية المتطرفة وهذه النزعات كانت تقاوم حركة النهضة وكل ما يمت للإسلام بصلة ولم تدرك أنها بهذا الصنيع إنما تخسر تونس استثمارات قيمة ومصالح حيوية. ثم جاءت جولة السيد مهدي جمعة فاستبشرنا بالرجل خيرا حين لمسنا فيه الجدية والحياد ولكنه في نظري المتواضع لم يوفق حين أدلى بتصريح لصحيفة الدستور الأردنية عبر فيه عن تأييده لقرار المملكة السعودية القاضي بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا لأن هذا التصريح مهما كانت نوايا صاحبه ومهما فسره وزيرنا للخارجية وهو محرج لا يخدم نصاعة وحياد وجدية علاقاتنا بدول الخليج والسبب أولا هو أن رئيس حكومتنا المؤقت غير مطلوب منه أن يعلق على قرارات سيادية لدولة شقيقة فالدول الخليجية الأخرى ذاتها لم تعلق لأن لكل منها موقفا خاصا بها من هذه الجماعة مثل دولة قطر ودولة البحرين التي صرح وزير خارجيتها يوم الخميس الماضي بأن حكومة بلاده ليست لها مشكلة مع الإخوان أما دولة الكويت فإن جماعة الإخوان فيها تشارك في السلطة والحكم منذ عقود وهذه خيارات سيادية لم يكن السيد مهدي جمعة مضطرا للتدخل فيها باسم تونس. وكانت أصداء تصريحاته في الداخل غريبة نوعا ما لأنها استعملت ووظفت من قبل أعداء الهوية إلى درجة أن بعض السياسيين والإعلاميين (حتى المرموقين منهم مثل الزميل سفيان بن حميدة!) شبهوا المهدي جمعة بالسيسي المصري وبشروا التوانسة بمصير مصري لا قدر الله! إنه خطأ نضعه في خانة فقدان المستشار الدبلوماسي الواعي لرئيس الحكومة وفي خانة قلة التجربة الخارجية وهشاشتها للمهدي جمعة وعلى كل يقول أشقاؤنا الخليجيون (الحمد لله صار خير).
“بوابة الشروق”
اقرأ أيضا
المفتي العام للقدس يشيد بالدعم الذي يقدمه المغرب بقيادة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني
أشاد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى المبارك، الشيخ محمد حسين، اليوم الأحد …
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.