بقلم: مصطفى الفقي*
تلح عليّ دائماً فكرة المقارنة بين عرب المشرق وعرب المغرب من خلال الإطار النظري للقومية العربية على الجانبين، وأشعر دائماً بأن الأساس النظري واحد ولكن فهم طبيعة المنطقتين يطرح أمامنا عدداً من الملاحظات هي:
أولاً: لا يمكن دراسة التأثير القومي بين المشرق والمغرب من دون التعرض للتجمعات الإقليمية على الجانبين طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، وسوف نجد أن الحديث عن وحدة «وادي النيل» كان واحداً من أقدم الأفكار المطروحة للتجمعات الإقليمية وكان مقصوداً به العلاقة الوثيقة بين شطري الوادي الشمالي والجنوبي أي مصر والسودان، وكانت بريطانيا دائماً هي الطرف الثالث الذي يعبث بالعلاقة ويوجهها على النحو الذي يريده، ولم تكن فكرة القومية العربية قد وجدت مساحة كافية في وادي النيل ولا حتى في مصر وحدها. ويكفي أن نتذكر أنه في يوم إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958 خرجت بعض المظاهرات من جامعة الإسكندرية تهتف: «السودان أولاً» وذلك يعني أن مفهوم «الوحدة» لدى قطاعات مصرية في ذلك الوقت كان محصوراً في وحدة «وادي النيل» بعد عامين فقط من استقلال السودان والشعور بأن كاريزما عبد الناصر تدفع بالعروبة شرقاً كبديل للفكرة التاريخية عن وحدة «وادي النيل»، ولم يكن المشرق العربي هو الآخر بعيداً من ذلك فقد ظهرت فيه حركة «الهلال الخصيب» التي بشر بها دعاة أوائل وحمل رايتها الحزب السوري القومي الاجتماعي بزعامة أنطون سعادة قبل إعدامه، وكان مضمون فكر القوميين السوريين هو الحديث عن وحدة الشام الكبير والعراق باعتبارها دول «الهلال الخصيب» ونجمته في قبرص، ولا بد أن نعترف هنا بأن الحزب السوري القومي السوري كانت له وجهة نظر في تشكيل وحدة إقليمية لا تتعارض مستقبلاً مع الوحدة العربية، ولقد حاولت في كتابي «تجديد الفكر القومي» الذي صدر في مطلع تسعينات القرن الماضي رد الاعتبار ولو متأخراً لأنطون سعادة ورفاقه رغم كل ما قيل عن علاقات لهم بقوى خارجية، ومضت التكتلات الإقليمية في العالم العربي على الوتيرة ذاتها حتى وصلت إلى محطة مغاربية فنشأ الاتحاد المغاربي الذي أطلق عليه مجازاً اتحاد «الكسكس والزعبوط» إشارة إلى ما هو سائد في دول المغرب العربي الخمس وهي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. ورغم أن ذلك الاتحاد لم يحقق نجاحات ملموسة بسبب الخلاف على مشكلة الصحراء بين الجزائر والمغرب والتي انعكست على غياب الأخيرة عن منظمة الوحدة الإفريقية وقتها إلا أن ذلك الاتحاد، ورغم ضعفه والظروف والملابسات التي أحاطت به والتي كان للعقيد القذافي دور سلبي فيها من منطلق تعزيزه للعمل الإفريقي العام من دون تخصيص دول شمال القارة بذاتها، نشط في بعض المراحل حتى أن وزير خارجية مصر الأسبق عمرو موسى طالب بانضمام بلاده إليه في نهاية تسعينات القرن الماضي، وبينما وافقت معظم دول المغرب العربي على ذلك اعترض بعضها معتبراً أن مصر تسعى إلى الاستفادة من المزايا التي يمكن أن يحصل عليها الاتحاد المغاربي في علاقاته الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي واعترض بعض المصريين على ذلك باعتبار أن مصر بحجمها السكاني ودورها التاريخي هي اتحاد وحده يقع في قلب العالم العربي وتستقر على شاطئ نيله جامعة الدول العربية، ولا تحتاج إلى عضوية اتحاد إقليمي قد يؤدي إلى تقليص دورها، وقبل ميلاد الاتحاد المغاربي ومع بداية ثمانينات القرن الماضي ولد مجلس التعاون الخليجي ليكون أكثر التجمعات العربية الحديثة قوة والتزاماً بسبب التجانس الواضح بين دوله والتداخل القبلي بين شعوبه ولقد أدى تماسك ذلك الاتحاد – إلى جانب ثراء معظم دوله – إلى دعم الدور الخليجي دولياً وإقليمياً وعربياً أيضاً، وبقي اليمن وحده خارج هذه التكتلات ولم يتمكن من دخول مجلس التعاون الخليجي لأسباب تتصل بنظامه السياسي المختلف وظروفه التاريخية، وقد انضمت اليمن ومصر والأردن إلى ما سمي مجلس التعاون العربي الذي دعا إليه صدام حسين قبيل الغزو العراقي للكويت، وتم دخول مصر إلى ذلك الاتحاد بتنسيق بين الرئيس الأسبق حسني مبارك ودول مجلس التعاون الخليجي في محاولة لتقليل الأضرار المحتملة من ذلك الاتحاد الذي لم يعمر إلا سنوات معدودة.
ثانياً: إن العلاقة بين العروبة والإسلام وبين القومية والدين أمر يحتاج إلى تأمل خصوصاً في دول المغرب العربي التي يختلط لدى شعوبها العنصران الديني والقومي، حتى أن الإسلام الحنيف كاد أن يتحول إلى قومية في الفترات التي تعرضت فيها بعض دول المغرب العربي لطمس هويتها الثقافية من خلال عملية «الفرنسة» التي فرضت عليها، ويكفي أن نتذكر أن حرب التحرير الجزائرية في مواجهة عدو يتحدث اللغة نفسها ويعيش في الإطار الثقافي نفسه قد دعت الجزائريين إلى الاعتصام بالشيء المختلف وهو دينهم، فكاد الإسلام أن يصبح هوية قومية ضد المحتل الأجنبي، كما أن لذلك تفسيراً آخر، فعلى رغم وجود جالية يهودية صغيرة في المغرب وتونس إلا أن الوجود المسيحي في المغرب العربي عموماً محدود ويكاد يكون كل مسيحي في تلك الدول منحدراً من أصول أجنبية، وهو أمر يختلف عن الوجود العربي المسيحي في مصر والشام والعراق، لذلك ازدهرت الحركة القومية في المشرق العربي وكان بعض دعاتها الأوائل والمؤسسين الآباء من العرب غير المسلمين حيث كانت حفاوتهم بالفكرة القومية خلاصاً لهم من اختلاف العقيدة الدينية، وارتبط الكفاح ضد الاستعمار بالشعور القومي التحرري. وعندما كانت المواجهة بين العرب والأتراك، كانت القومية العربية هي الملاذ للثوار العرب أمام عدو يلتقي معهم دينياً ولكن يختلف عنهم قومياً في صورة عكسية للحالة الجزائرية على الجانب الآخر من الفضاء العربي كله.
ثالثاً: لقد وحّدت أحداث ما يسمى «الربيع العربي» بين جناحَي الأمة العربية في المشرق والمغرب ولم يكن من قبيل المصادفة أن تبدأ أحداثه من تونس ثم تمتد إلى مصر وليبيا لتعبر إلى المشرق في سورية وتشتعل في اليمن وتتأزم في العراق، فالانتفاضات الشعبية لم تفرّق بين المغرب العربي والمشرق العربي بل مضت وقائعها على وتيرة واحدة من دون اختلافات تذكر بحيث يمكن التعويل عليها كمعايير للتفرقة، فالشعب العربي واحد في النهاية، كما أن أي تقييم موضوعي لسلسلة الانتفاضات الشعبية في البلاد العربية سوف يكتشف أن المطالب المطروحة هي مطالب محلية بامتياز ولم يطرح شعار واحد من الملايين يتعلق بالسياسة الخارجية أو الموقف تجاه جرائم إسرائيل بل طغت الشعارات الداخلية على ما عداها فكانت في مصر تدور حول العدالة الاجتماعية، وفي ليبيا تدور حول مواجهة الاستبداد وحكم الفرد، بينما بدأت في تونس بمواجهة الاستبداد والفساد معاً عندما أطلق انتحار المواطن بوعزيزي حرقاً شرارة الثورة ليس في تونس وحدها ولكن في المنطقة كلها.
رابعاً: ذكر لي المفكر اللبناني الكبير إلياس سحاب أن مقياس العروبة لديه هو درجة الإيمان بدور مصر في عالمها العربي، واستطرد شارحاً أن من يؤمن بمكانة مصر وهي الكيان الأكبر في العالم العربي يكون بالضرورة مخلصاً لقضية الوحدة العربية ولذلك نأت مصر بنفسها عن الدخول في تنظيمات إقليمية عربية ماعدا مجلس التعاون العربي كما ذكرنا من قبل والذي شاركت فيه بدعوة مُلِحة من صدام حسين وبتنسيق مع المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج في ذلك الوقت خوفاً من جنوح النظام العراقي حينذاك والأخطار المحتملة نتيجة ذلك، من هنا فقد تمثل كثير من العروبيين صورة العالم العربي على شكل نسر يحلق في الأجواء وقلبه في مصر وجناحاه في المشرق وفي المغرب ولقد لعبت مصر تاريخياً دوراً وسطياً وكانت جسراً للتواصل بين الشرق والغرب وهمزة وصل بين أطراف الأمة العربية بحكم موقعها الجغرافي ودورها التاريخي.
خامساً: إن جامعة الدول العربية رغم كل الانتقادات الموجهة إليها إلا أنها تبقى في النهاية رمزاً للاصطفاف العربي، حتى وإن لم تكن قادرة على تحقيق التضامن المطلوب أو التكامل المنتظر وحيث احتضنت القاهرة مقر الجامعة العربية بحكم الميثاق إلا أن الأعراف قد جرت بعد ذلك على أن يتم اختيار الأمين العام من دولة المقر وقد حدث ذلك طوال الوجود الطبيعي للجامعة في مقرها في القاهرة وكذلك عند نقل مقرها إلى تونس موقتاً بعد توقيع اتفاقيات «كامب ديفيد».
هذه بعض الأفكار طرحناها لندرك بها أن مفهوم القومية رغم ثباته عربياً إلا أن طريقة استقباله في المشرق تختلف عنها في المغرب لأسباب عدة يبرز في مقدمها التداخل بين الإسلام والعروبة في بعض دول المغرب فضلاً عن المؤثرات الثقافية الأوروبية لديها، والأمل كبير في ألا تؤدي هذه الاختلافات المرحلية إلى خلل في النظام العربي القائم مع جنوح بعض أجزائه إلى السلبية، كما نخشى من تزايد تأثير بعض التجمعات الإقليمية وتنامي دورها على المفهوم الشامل لمعنى القومية، فالعروبة تلحق بكل من تكون العربية لغته الأولى بلا تمييز أو تفرقة!
* كاتب مصري/”الحياة”