لم يكن القائمون على إدخال بعض التعديلات على القانون الجنائي المغربي يتوقعون أن يثير زوبعة من النقاش العمومي وكما هائلا من الندوات والموائد المستديرة والمقالات الصحافية.. وزارة العدل والحريات التي يسيرها أحد أبرز قيادات حزب العدالة والتنمية تقدمت بمسودة أولية لمشروع القانون الجنائي طرحتها للنقاش العمومي ولاستطلاع رأي التيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني قبل صياغتها في شكل مشروع قانون وعرضها على أنظار مجلس الحكومة قبل أن تحال على البرلمان للنظر فيها..
النقاش الذي يثار اليوم حول مسودة مشروع القانون الجنائي اختلطت فيه الاعتبارات السياسية بالإيديولوجية..أما الغائب الأكبر فهو النقاش القانوني على ضوء النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي الذي يعتبر في أصله امتدادا للقانون الجنائي الفرنسي ولفلسفة التشريع الجزائي كما رسخها المستعمر الفرنسي ولازالت حاضرة في مسودة القانون الجديد.
اعتبارات كثيرة تقف وراء مراجعة شاملة لمقتضيات القانون الجنائي المغربي الذي أقره المشرع المغربي سنة 1962 ودخلت عليه بعض التعديلات أبرزها ما يتعلق بمكافحة الإرهاب.. فمن جهة هناك مستلزمات الملاءمة مع مقتضيات الدستور الجديد المتقدمة في مجال الحقوق والحريات وضرورة الانسجام مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة المغربية سواء في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان أو في مجال القانون الدولي الإنساني، ومن جهة أخرى هناك متطلبات مكافحة الجريمة ومواكبة تطورها بهدف ضمان أمن وسلامة المجتمع..
هناك حاجة ماسة للنقاش بين متخصصين تساهم فيه المدارس والاتجاهات المختلفة والمعروفة في مجال العدالة الجنائية وتسمح بالوقوف عند أبرز مستجدات مسودة مشروع القانون الجنائي والتعبير عن العديد من الانتقادات بصدده، مع تجاوز بعض النقاشات المتسرعة التي لم تمعن النظر في حوالي 598 مادة توزعت على سبعة أبواب..
المحاولات الأولى لتعديل القانون الجنائي المغربي ابتدأت سنة 2004 ووضعت مسودات أولية لم تأخذ مسارها التشريعي..المسودة الحالية تعتبر نتاجا لعمل مشترك ساهم فيه قضاة من وزارة العدل والحريات وأساتذة جامعيون ونشطاء من المجتمع المدني يمثلون مختلف التيارات الفكرية.. هناك على العموم تثمين للمقاربة التشاركية والمنهجية التشاورية المعتمدة التي فسحت المجال للمجتمع المدني للإدلاء باقتراحات تفصيلية قبل الصياغة النهائية للمشروع، وهناك تثمين للجهد الذي بذلته لجنة إعداد المسودة الأولية..
المستجدات التي جاءت بها مسودة مشروع القانون الجنائي استندت على فلسفة جنائية مندمجة حاولت تجريم بعض الأفعال الجديدة انسجاما مع ضرورة الملاءمة مع الدستور ومع التزامات المغرب الدولية وأن تأخذ بعين الاعتبار الجريمة المنظمة والجرائم العابرة للحدود، من قبيل تجريم الاختفاء القسري والاتجار بالبشر والتحريض على الكراهية وازدراء الأديان وتهريب المهاجرين، كما جرمت المسودة جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وهو ما سيمهد الطريق أمام المغرب للمصادقة على اتفاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، كما حاولت أن تعيد النظر في فلسفة العقوبات عبر اعتماد مفهوم العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها سنتين حبسا، وتتمثل هذه العقوبات البديلة في العمل لأجل منفعة عامة أو الغرامة اليومية أو تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، وهو ما من شأنه أن يسهم في إصلاح وتقويم سلوك مرتكبي بعض الجرائم إلى جانب التخفيف على الاكتظاظ الموجود داخل السجون..
مسودة مشروع القانون الجنائي فتحت المجال أمام المجتمع من أجل حماية المال العام ومحاربة الفساد، وذلك عبر تجريم الإثراء غير المشروع بالنسبة للموظف العمومي الذي ثبت بعد توليه الوظيفة أن ذمته المالية عرفت زيادة ملحوظة وغير مبررة مقارنة مع مصادر دخله المشروع ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة، وكذلك تجريم الامتناع أو التأخر في تنفيذ مقررات قضائية وإعادة صياغة المقتضيات الخاصة بالتأثير على القضاة..
السياسة الجنائية المعبر عنها في المسودة أولت عناية خاصة بالآليات القانونية لتعزيز الصلح بين المتقاضين وإيقاف سير الدعوى العمومية في أوسع نطاق وذلك في الجرائم الأقل خطورة والمعاقب عليها بسنتين حبسا.
لا يتسع المقام هنا لتقديم قراءة شاملة في المستجدات الإيجابية التي جاءت بها المسودة، لكن من المؤسف أن النقاش العمومي انحصر في ثلاث نقاط أساسية: حرية الاعتقاد والإفطار العلني في رمضان والعلاقات الجنسية الرضائية..
تنص المادة 220 من المسودة الأولية للمشروع على ما يلي: «يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو الأيتام»..
تقدم هذه المادة كمصادرة للحق في الاعتقاد والحال أن هذه المادة صريحة في تجريم استخدام أدوات التأثير والإغراء التي لا تخاطب العقل ولكن تستغل ضعف وهشاشة وفقر بعض الفئات الاحتماعية من أجل تغيير دينها وزعزعة عقيدتها الإسلامية، أما تغيير الدين انطلاقا من قناعات ذاتية دون تدخل عامل للإغراء فهو غير مجرم بمقتضى هذه المادة وهو ما ينسجم مع حرية المعتقد.
مادة أخرى تثير الجدل، وهي تلك المتعلقة بالعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج؛ حيث جاء في المادة 490 ما يلي: «كل اتصال جنسي غير شرعي بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة زوجية، تكون جريمة فساد يعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، أو إحدى هاتين العقوبتين». بعض الرافضين لهذه المادة يدعون بشكل ضمني إلى رفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية التي تتم بين راشدين..
وهنا ينبغي أن نقول بأن القاعدة القانونية ينبغي أن تكون قاعدة اجتماعية وأن تراعي الشروط الاجتماعية التي تتنزل فيها، ومن هذا المنطلق فإن إباحة العلاقات الجنسية بين رجل وامرأة خارج مؤسسة الزواج تعتبر مسألة مستهجنة ومرفوضة من طرف المجتمع المغربي رغم تسترها بالخلفية الحقوقية الكونية..
أما بالنسبة للإفطار العلني في رمضان، فإن من المعلوم أن المجتمع المغربي يضفي هالة من القدسية على شهر الصيام، ولذلك فرض الجنرال ليوطي على المعمرين الفرنسيين المقيمين في المغرب في زمن الاستعمار عدم الإفطار العلني في رمضان حماية للنظام العام ومن أجل عدم استفزاز مشاعر المسلمين.. انسجاما مع ذلك جاء القانون الجنائي المغربي ليجرم هذا الفعل على المسلمين فقط وليس على غير المسلمين كما كان في عهد ليوطي، وجاءت المادة 222 من مشروع القانون الجنائي التي تقول: «يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر وغرامة من 2000 إلى 10000 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي وجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي».
هكذا يتضح بأن الخلفية القانونية والتاريخية من شأنها رفع الكثير من العمى الإيديولوجي الذي طبع الكثير من النقاشات السائدة..
٭ كاتب من المغرب/”القدس العربي”