اليسار التونسي مكون سياسي واجتماعي رئيسي في تونس، له مكانته ودوره في المجتمع التونسي وصار يحظى باعتراف العائلات السياسية المنافسة له وحتى تلك التي تخاصمه. فالباجي قائد السبسي رمز العائلة الدستورية انخرط في مشروع جبهة الإنقاذ الذي طرحته الجبهة الشعبية في يونيو 2013 لمقاومة استبداد الترويكا، وتبنّى اعتصام الرحيل الذي شلّ المجلس التأسيسي وتصدّى لدستور يونيو 2013 الرجعي الذي قدّمته حركة النهضة.
المهمّ أنّ اليسار التونسي موجود اليوم في الساحة السياسية التونسية بشكل رسمي. وقد ساهم في تاريخ تونس الجديد بعد 14 يناير 2011 تماما كما شارك بفعاليّة منذ العشرينات في معركة التحرّر الوطني لاسيما ضمن الحركة النقابيّة.
ولابد من الإشارة إلى أن اليسار التونسي لم يتخلف عن المشاركة في المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس طيلة تاريخها المعاصر، منذ انتخابات المجلس القومي التأسيسي سنة 1959 إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة لسنة 2014. والحقيقة أنّ اليسار التونسي كان ديمقراطيّا لا ثوريا، بالمعنى الكلاسيكي للثورة، باعتباره لم يفكّر في الوصول إلى الحكم عبر الثورة الشعبية أو المسلحة. كما لم يفكر في أي شكل من أشكال الاستيلاء على السلطة بشكل غير شرعي كالانقلاب أو التمرّد، لاسيما في فترة المدّ اليساري في الستينات والسبعينات. كما لم يحاول العمل على التسلح طيلة تاريخه شأن الحركات اليسارية شرقا وغربا.
ومن الحجج على ديمقراطية اليسار التونسي ومدنيته، أنّه كان في السنوات التي تلت الثورة التونسية، أمام ثلاث فرص كبرى مهيّئة له ليستولي على السلطة ولم يفعل؛ يوم 14 يناير 2011، ويوم 8 فبراير 2013، وأثناء اعتصام الرحيل أواخر يوليو 2013.
تعاطى اليسار التونسي مع تشريعية 2014 بشكلين؛ فهناك من اليساريين من قاطع الانتخابات، وهناك من شارك فيها. وقد خاض اليساريون الانتخابات التشريعية ضمن ائتلافين انتخابيين متنافسين متباعدي الأهداف دون أدنى درجة من التنسيق والتقارب، هما ائتلافا الاتحاد من أجل تونس الذي راهن على ولائه لنداء تونس، والجبهة الشعبية التي راهنت على برنامجها ورصيدها النضالي. والنتيجة كانت صفرا من المقاعد للاتحاد، و15 مقعدا للجبهة بما أهّلها لقيادة صفّ المعارضة داخل البرلمان وفي الساحة السياسية والاجتماعية.
ولم يكن مفهوما إصرار حزبيْ المسار الديمقراطي الاجتماعي والعمل الوطني الديمقراطي على دخول الانتخابات تحت ائتلاف غادره رهانه الرئيسي بل انقلب عليه ونعني حزب نداء تونس. كما فشل اليسار التونسي في أن يحقّق وحدة بين مكوّناته الحزبية أو بين أهمّها. ولم تتحسّن خارطة التوزع اليساري في المشهد السياسي كثيرا قياسا بانتخابات 2011 حيث اكتفى اليسار التونسي بالتقليل من الخسائر فقط، إذ أنّ الجبهة الشعبية الائتلاف اليساري الكبير في تونس، خسر بعض مكوّناته في محطات حاسمة كانت تقتضي التوحّد والتضامن.
هذه المكوّنات التي غادرت ائتلاف الجبهة الشعبيّة لعبت دورا عكسيّا في انتخابات 2014 بوجهيها، فبعضها قاطع الانتخابات، وبعضها الآخر ساند قائمات أخرى وأحزابا أخرى ومرشّحين آخرين في الرئاسيّة.
كما كان للمسألة التنظيمية دور كبير في تعطيل المسار الانتخابي للجبهة الشعبية إذ أن مجلس الأمناء وجد نفسه واقعا في ورطة المحاصصة الحزبية أثناء تشكيل القائمات واختيار رؤسائها بسبب غياب المقاييس. هذه المحاصصة أفقدت الجبهة بعض المقاعد لاسيما في دوائر بنزرت وسوسة وباجة ومدنين وقبلي ونابل وقابس وفرنسا.
ولاشك في أنّ المال السياسي قد أثر في نتائج اليسار التونسي التي تحالفت فيها الرجعية مع الليبرالية الغربية في الإطاحة به وتعطيل تقدّمه نحو الحكم. وتجسّد هذا التحالف في تقريب الأخوين العدوين النداء والنهضة الإخوانية من بعضهما البعض، الذي بدأ منذ يوليو 2013 ضمن لقاء باريس بين السبسي والغنوشي. والمتابع لمجريات الأحداث في تونس منذ ذلك اللقاء يكتشف أنّ التشارك في الحكم القائم بين حركتيْ نداء تونس والنهضة ليس وليد نتائج الانتخابات، بل هو سابق لها. بمعنى أنّه لم يكن مُرادا للجبهة الشعبيّة أن تشارك في الحكم كما توهم بذلك حركتا نداء تونس والنهضة.
كما كان لمسيرة القمع التي تعرّض لها اليسار التونسي من قبل كلّ الأنظمة التي تداولت على حكم تونس ابتداء بنظام الحبيب بورقيبة، مرورا بنظام زين العابدين بن علي، وصولا إلى نظام الترويكا دور في نتائجه الانتخابية. فلئن كان نظاما بورقيبة وبن علي لم يقصّرا في قمع اليساريين نفيا وسجنا وتعنيفا وتعذيبا وحرمانا من الحقوق المدنيّة، فإنّ الترويكا مرّت إلى التحريض عليهم وتعريض حياتهم وسلامة عائلاتهم إلى الخطر. وآل أمر ذلك التحريض إلى تصفية شهيدي الجبهة الشعبية القياديين شكري بلعيد ومحمد براهمي.
وقد تواصل الانقسام الذي دخلت به مكوّنات اليسار الانتخابات التشريعية إلى الرئاسية. فحزبا المسار والعمل الوطني الديمقراطي أعلنا مساندتهما للباجي قايد السبسي مرشّح نداء تونس منذ مايو 2014 ورفضا دعم مرشّح الجبهة الشعبية حمة الهمامي. كما رفض نواب المسار في المجلس التأسيسي تزكية ترشحه أمام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
تساوت مكوّنات اليسار التونسي في الأخطاء المرتكبة تجاه بعضها بعضا. فالجبهة الشعبيّة لم تتّسع رحابتها لاستيعاب أحزاب المسار والعمل الوطني الديمقراطي واليساري الاشتراكي والنضال التقدمي والوطد الثوري، بل لم تتمكّن من إيجاد المناخ الجدلي الملائم الذي يمكن أن تبنى عليه وحدة يسارية حقيقية، من جهة. ومن جهة أخرى، ليس مفهوما أن تجد أحزاب المسار والعمل الوطني واليساري الاشتراكي في نداء تونس الليبرالي ما قرّبهم منه دون حذر.
ورغم ذلك كانت نتائج الانتخابات الرئاسيّة ضعف النتائج التشريعيّة من حيث عدد أصوات الناخبين لأسباب عدة أهمها شخصية حمة الهمامي التي تحظى بمكانة محترمة بين جماهير الناخبين.
نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية يمكن أن يبني عليها اليسار التونسي تحليله ويعتبرها مرجعا يرسم عبره أهدافه. وتعدّ الجبهة الشعبية نواة توحيدية وجب تطويرها نظريا وهيكليا وأيديولوجيا حتى تسع جميع اليساريين بل جميع من يرغبون في الالتحاق بها من التقدميين والمؤمنين بالعدالة الاجتماعية عموما. كما لابد لليسار التونسي من أن يغيّر تكتيكه التنظيمي حتى يتوحّد على البرامج والقضايا الكبرى لا على الانتماء الأيديولوجي أو النوستالجيا المثاليّة الوثوقية. المسألة الأخلاقية أساسية أيضا في توحيد اليسار، إذ عليه أن يجدد أدبياته القائمة أساسا على النقاوة الثورية أو على الطهرانية، أو على اللائكية التغريبية عند حزب المسار مثلا. إنّه بهذه الأخلاق يعزل نفسه عن المجتمع التونسي الذي يطمح في حكمه وإدارة شأنه يوما.
*كاتب وباحث سياسي تونسي/”العرب”