بينما تتفاعل دول الاتحاد الأوروبي مع مأساة رحلات «قوارب الموت» التي تقذف بوتيرة متسارعة آلاف الجثث الطافية نحو شواطئ أوروبا، يبدو العالم العربي غير آبه بهذه القضية وضحاياها على الرغم من أنها تعنينا أكثر مما تعنيهم. فكل هذه القوارب تقريبا تنطلق بحمولتها البشرية من دول عربية متوسطية، وعدد غير قليل من الضحايا هم من السوريين والفلسطينيين والمصريين والسودانيين والمغاربة والصوماليين. يضاف إلى ذلك أن القضية تسلط الأضواء مجددا على الوضع المأساوي في ليبيا التي أصبحت بسبب الفوضى مركزا أساسيا لشبكات المتاجرين بأرواح البشر في رحلات قوارب اليأس والموت.
خلال الأيام القليلة الماضية احتلت الأزمة بأبعادها الإنسانية والسياسية حيزا واسعا في التغطية الإخبارية، واليوم يسارع قادة دول الاتحاد الأوروبي نحو قمتهم الطارئة المخصصة لبحث الموضوع بعد غرق أكثر من ألف من «لاجئي القوارب» في ظرف 24 ساعة. من بين هؤلاء القادة رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون الذي يقطع حملته الانتخابية، ليشارك في القمة المخصصة لبحث الكارثة الإنسانية التي تهز ضمائر الناس هنا، وتثير كثيرا من الأسئلة الصعبة، بينما يبدو عالمنا غائبا عن الأزمة.
لا أحد يعرف بالتحديد عدد ضحايا «قوارب الموت» لأن هناك جثثا لا يتم انتشالها، وزوارق تغرق من دون أن يعلم بها أحد، لكن وفقا للمنظمة الدولية للهجرة فإن أكثر من 20 ألف مهاجر لقوا حتفهم منذ عام 2000 معظمهم في البحر الأبيض المتوسط. هؤلاء كانوا من بين مئات الآلاف، وغالبيتهم من الشباب الذين دفعهم اليأس للمخاطرة بحياتهم ومحاولة الوصول إلى شواطئ أوروبا بحثا عن الأمن أو عن فرصة عمل أو عن حلم حياة أفضل. فخلال العام الماضي تمكن أكثر من 125 ألف شخص من الوصول إلى أوروبا على متن هذه القوارب، منهم أكثر من 100 ألف حطوا في مياه أو سواحل إيطاليا وحدها. هؤلاء كانوا من «المحظوظين» الذين لم تبتلعهم مياه البحر، أو يلقوا حتفهم على أيدي عصابات التهريب. فوفقا لمنظمات الإغاثة يواجه ركاب قوارب التهريب مخاطر كثيرة مثل تعرضهم للنهب والاعتداءات الجسدية والجنسية، والإغراق بإلقائهم من فوق متن القوارب المكتظة أو تركهم وحدهم في عرض البحر بعد هروب طواقم هذه القوارب البالية.
القادة الأوروبيون لا يبحثون الأزمة في قمتهم الطارئة اليوم من بُعد إنساني فقط، بل من منطلقات سياسية واقتصادية وأمنية. فملف الهجرة أصبح قضية شائكة يدور حولها جدل واسع في أوروبا اليوم، خصوصا في ظل ظروف الأزمات الاقتصادية ومشكلات البطالة وتصاعد مد الأحزاب اليمينية المتطرفة والحركات العنصرية التي تتغذى من هذه الأجواء. ففي فرنسا وبريطانيا مثلا أحرزت الحركات اليمينية المتشددة تقدما كبيرا جعلها تطمح إلى لعب دور سياسي أكبر، لا في قضية الهجرة وحسب، بل وفي مستقبل الاتحاد الأوروبي ككل. فزعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا، ماري لوبن الطامحة للوصول إلى قصر الإليزيه تستخدم ملفات الأزمة الاقتصادية والعداء للمهاجرين كورقة انتخابية رابحة، مثلما يفعل حزب الاستقلال البريطاني (يوكيب) وزعيمه نايغل فاراج الذي تقول استطلاعات الرأي العام إنه سيحصل في الانتخابات العامة في السابع من الشهر المقبل على أكبر عدد من الأصوات منذ تأسيسه.
البعد الأمني في مناقشة قضية لاجئي القوارب يرتبط بالمخاوف من أن تستغل الحركات الإرهابية موجات الهجرة البحرية لإدخال عناصرها إلى أوروبا، فمنذ تدهور الأوضاع في ليبيا وغرق البلد في دوامة الحرب والفوضى، بدأت دوائر غربية تحذر من تداعيات هذا الوضع على أوروبا من منظور تدفق اللاجئين، وكذلك من إمكانية استغلال الحركات الإرهابية مثل «داعش» موجات مهاجري القوارب لإدخال عناصرها إلى أوروبا. وبعد ظهور «داعش» على السطح في عمليات قتل العمال المصريين والإثيوبيين في ليبيا، ورسائل التهديد التي وجهها التنظيم لأوروبا، بدأ التفكير جديا في خطوات أوروبية لمواجهة هذا الخطر وللحدّ من موجات الهجرة البحرية عبر المتوسط.
من الإجراءات التي تبنتها دول الاتحاد الأوروبي ضمن خطة من عشر نقاط مهاجمة مراكز شبكات المهربين وتدمير قواربهم، وتوسيع دائرة عمليات المراقبة البحرية، وجمع المعلومات، والتدقيق في هوية القادمين ورصدهم بأخذ البصمات الإلكترونية. هذه الإجراءات قد تحد من تدفق اللاجئين، لكنها لن تحقق الأثر المطلوب إلا من خلال تعاون أكبر مع الدول المعنية، ومنها بالطبع دول عربية، وكذلك من خلال جهود أكبر لمعالجة الفوضى في ليبيا.
مأساة قوارب الموت قد تفتح نافذة لإعطاء اهتمام أكبر بالوضع في ليبيا. فأوروبا تتحدث عن أهمية المعالجة السياسية للأزمة في هذا البلد، وإذا مَنّ الله على العرب بالتحرك أيضا فقد تتكامل الجهود لتدفع في اتجاه إنقاذ ليبيا قبل أن تتحول إلى دولة فاشلة تماما فيكون الثمن أفدح للجميع، خصوصا للعالم العربي.
*كاتب صحفي/”الشرق الاوسط”