قد لا تحتفظ الذاكرة البشرية بأن البحر الأبيض المتوسط شهد في تاريخه مثل هذه الموجات من المهاجرين الحالمين بالعبور نحو أوروبا والذين يبدو ألا شيء يخيفهم أو يثنيهم عن خوض البحر.
نحن أمام حرب جديدة من نوع مختلف غير متوقع. حرب بلا سلاح تشبه معارك الانتحاريين الذين لا يوقفهم جيش مهما كان عتاده وتدريبه وقوته، لأنهم أصلا قادمون ليموتوا.
والمشكلة ليست في المهاجرين وحدهم وأعدادهم وتحمسهم للهجرة باتجاه الشمال ولو كانت حظوظ وصولهم ضئيلة مقارنة بفرص غرقهم. المشكلة الأخطر هي في عصابات التهريب التي يبدو أنها بلغت مستوى من «الاحترافية» والجرأة لم يسبقها إليه أحد، والدليل الكمُّ الكبير للقوارب المنطلقة يوميا من المجهول باتجاه الشمال، وحجم حمولتها البشرية.
وإذا صدقت التقارير الأوروبية التي تحدثت عن أن المهرّبين يُبلِغون مراكز خفر السواحل الإيطاليين بالقوارب التي تبدأ في الاقتراب من المياه الإقليمية الإيطالية لضمان التدخل لإغاثتهم، إذا صدقت هذه التقارير فلا شك أن أوروبا اليوم أمام شبكات خارقة الجرأة والقدرة على الإزعاج، ولا شك أيضا أن القادم اسوأ.
لا اختلاف على أن ليبيا هي المنطلق الأهم والأخطر للقوارب المحمّلة يوميا بمئات «مشاريع الغرقى». وأحد الأسباب الاساسية لذلك، القرب الجغرافي من السواحل الإيطالية، ثم حالة الفوضى التي تعيشها هذه الدولة وغياب مؤسسات من شأنها مواجهة الهجرة والمهاجرين والمهرّبين. يبدو أن الليبيين منشغلون بقتال بعضهم بعضا ولا وقت لديهم لشيء آخر.
المشكلة في ليبيا مشكلتان: الحدود الجنوبية السائبة التي يتسرب منها المهاجرون إلى داخل ليبيا، والحدود الشمالية المفتوحة التي يتسربون منها إلى خارج ليبيا.
إذاً، الحل والعلاج يبدأ من ليبيا. إلى حد الآن، أغلب النقاش السياسي والأخلاقي والبوليسي في أوروبا يدور حول القوارب وكيف ومَن يموّل العمليات الأمنية لمنع وصولها أو صدها لتعود من حيث انطلقت. بينما تحتاج أوروبا إلى نقاش أعمق وأكثر جدية يبحث تفاصيل ما قبل انطلاق القوارب ويفضي إلى إزالة أسباب تراكم أعداد المهاجرين والحالمين بالوصول إلى أوروبا وتجمعهم في ليبيا بهذه السهولة.
يبدأ الأمر بالحاجة إلى إعادة الاستقرار إلى ليبيا وإقامة دولة حقيقية تقوم على المؤسسات، لا على الأشخاص والقبائل، ومساعدتها على الوقوف والاستمرار. الحكومات الأوروبية، ومن ورائها أمريكا والعالم الغربي، تتحمل جزءاً أساسيا من مسؤولية الوضع المأساوي الذي تعيشه ليبيا لأنها شجعت على الإطاحة بنظام معمر القذافي لكنها تخاذلت عن المساعدة في المرحلة لاحقة. لم يكن الهدف الأسمى للثورة الليبية إسقاط القذافي بل الوصول إلى دولة مساواة وديمقراطية وحرية، وما إسقاط النظام إلا وسيلة نحو ذلك. بيد أن الأوروبيين ساعدوا في قطع نصف الطريق ثم ولّوا الأدبار.
سرعة مغادرة الحكومات الغربية للمشهد الليبي بعيد سقوط نظام القذافي كانت لافتة ومريبة، والنتيجة هي ما نرى من فوضى عارمة ليست قوارب الهجرة سوى أحد وجوهها الحزينة التي تحيل إلى مآس أبعد من ليبيا ولا تقل خطورة.
أول خطوة في طريق حل معضلة الهجرة هي إسهام كل من له دور ومسؤولية في إنهاء الصراع الدموي في ليبيا في أقرب وقت وعبر أقصر الطرق.
وسط الفوضى والمأساة، هناك نقطة تبعث على قليل من التفاؤل تتمثل في أن الشعب الليبي ليس طرفا في «صناعة الهجرة» هاته. إذ لا تذكر التقارير الإعلامية والرسمية بوضوح تواطؤ ليبيين مع عصابات التهريب، ولا تفيد عن وجود ليبيين ضمن حمولة القوارب المتجهة نحو إيطاليا.
أغلب «المسافرين» أفارقة مأزومون يتركون وراءهم مجاعات وأزمات وحروب، وبدرجة أقل سوريون وفلسطينيون، بينما تبدو ليبيا ملعبا محايدا والليبيون كمتفرج يتابعون مشاهد مأساة كُتب لها أن تدور فوق أرضهم وبالقرب منهم. بل إن وجود تقارير عديدة تتحدث عن تعرض الأفارقة في ليبيا إلى الضرب المبرح والإهانة اللفظية والجسدية والسجن والابتزاز وحتى القتل، قد يعني في ما يعنيه أن المجتمع الليبي ومكوناته الأمنية والسياسية رافض لهؤلاء المهاجرين ومحتج على تحوّل بلاده إلى محطة عبور.
غياب يد الليبيين عن مأساة قوافل المهجرين، عندما يتأكد، يجعل مهمة مواجهتها أقل تعقيداً. هناك فرق بين ان تكون ليبيا مصدراً للمهاجرين وأبناؤها هم الخزّان، وبين أن تكون معبراً فقط لأن القدر وضعها قبالة أوروبا والظروف جعلتها مطمعاً للحالمين بالعبور.
الحل موجود على صعوبته.. دولة ليبيا مستقرة وقوية، تحمي الليبيين وتريح غيرهم: إذا تحمل الأوروبيون مسؤوليتهم وأكملوا المهمة التي غادروها بعد سقوط نظام القذافي، فسيكونون قد أنجزوا ثلاثة أرباع الحل المطلوب لمشكلة الهجرة المنطلقة من ليبيا.
سيتعيّن عليهم بعدها الاتجاه إلى أبعد من ليبيا.. إلى إفريقيا التي تصدّر هؤلاء الناس بهذا الإصرار. هنا أيضا مطلوب من الحكومات الغربية والمنظمات الإقليمية حلول إنسانية واقعية تشمل التنمية والتعليم والصحة وإصلاح منظومة الحكم، وتتوج بالقضاء على إيمان الناس هناك بأن مغامرة الهجرة واحتمال الموت غرقا ليأكل السمك جثتك، أفضل من البقاء في أرض الآباء والأجداد.
وقبل أي حديث وبعده، هناك نصيب من المسؤولية التاريخية (الماضي الاستعماري) في مأساة اليوم.
دون هذه وتلك، سيكون عليهم تعلم العيش مع المراكب التي تطل برأسها يوميا بكل ما تحمل وترمز إليه من مأساة.
٭ كاتب صحافي جزائري/”القدس العربي”