تزايدت التقارير الدولية المحذرة من تنامي حدة الهجرة السرية في منطقة المتوسط، التي وصفتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين غير مرة بالمسار الأكثر خطورة في العالم.
وبالموازاة مع ذلك تنامى عدد الضحايا من هؤلاء المهاجرين في عرض البحر، ما يضع المجتمع الدولي أمام معضلة كبرى تتطلب مقاربة ناجعة تسمح بالموازنة بين متطلبات الأمن وحماية حقوق الإنسان.
برزت الهجرة السرية في شكلها الفردي أو الجماعي، الاختياري أو تحت الضغط، كرد فعل على التعقيدات والتضييقات التي طالت حرية التنقل في الدول الأوروبية، وهرباً من الصراعات السياسية والعسكرية الدامية، أو بحثاً عن أوضاع اقتصادية واجتماعية أفضل.
إن تضاعف نسبة هذه الهجرة في السنوات الأخيرة، يدفع للتساؤل حول مسبباتها وتداعياتها، إذ يشكل الواقع المرير الذي تعيشه مختلف المناطق عاملاً مشجعاً على الهجرة والمغامرة على ركوب رحلة غير آمنة عبر سفن ومراكب مهترئة، لتنتهي رحلة الرعب في غالب الأحوال بالموت غرقاً أو برداً أو تحت وطأة العطش والجوع أو الاعتقال من طرف خفر السواحل.
شهدت الهجرة السرية عبر المتوسط تزايداً مطرداً في المدة الأخيرة، وقد أسهم في ارتفاع حدتها، تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في عدد من بلدان الساحل الإفريقي والضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، كما ساعد على ذلك أيضاً الارتباك الأمني في ليبيا التي أصبحت محط اهتمام من قبل الراغبين في الهجرة السرية من مواطنيها أو من دول الجوار.أشارت بعض التقارير الدولية إلى أن أكثر من 3400 مهاجر سري تعرضوا للغرق في عرض المتوسط، كما جاء في تقرير أصدرته المنظمة الدولية للهجرة أن نحو 3072 مهاجراً سرياً لقوا حتفهم غرقاً أو برداً خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2014 في البحر الأبيض المتوسط، من ضمن مجموع 4077 مهاجراً قضوا على امتداد مناطق مختلفة من العالم، حيث تتشكل جنسيات الضحايا من عدد من البلدان الإفريقية والدول المغاربية والشرق أوسطية.
ومن جانبها، أكدت المنظمة الأوروبية لمراقبة الحدود أن عدد المهاجرين السريين نحو دول الاتحاد الأوروبي تضاعف لأكثر من مرتين وذلك بنسبة 250 في المئة في الشهرين الأولين للعام 2015 (يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط) مقارنة مع الفترة نفسها لسنة 2014.
إن الهجرة عبر المتوسط ليست وليدة اليوم، إذ إنها ظهرت في أعقاب السياسات الصارمة التي باشرتها مختلف البلدان الأوروبية في سنوات الثمانينات من القرن الماضي لوقف تدفق الهجرة نحوها، بعد تزايد الإكراهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عدد من البلدان الإفريقي، بعدما كانت متحمسة قبل ذلك في استقبال العمالة القادمة منها في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما كانت بحاجة إلى سواعد لإعادة بناء أوروبا المدمّرة.
علاوة عن الشعور باليأس إزاء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العديد من البلدان الإفريقية التي تشكل مصدراً مهماً لهذه الهجرة، سمحت أجواء “الربيع العربي” التي شهدتها دول المنطقة في تنامي هذه الهجرة، سعياً لتجاوز المأزق السياسي والأمني الذي تعيشه مختلف دول الحراك، ورغبة في تحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية.
فقد كان لتطور الأوضاع في سوريا، وفقدان الأمل في تسوية ناجعة أو حلّ قريب، أثر كبير في هذا الاتجاه، والشيء نفسه في ليبيا التي ما زال العنف سيد الموقف فيها، وجدير بالذكر أن في مثل هذه الأوضاع الملتهبة تنتعش شبكات التهريب بكل أصنافها.
نجحت الحكومات الأوروبية المتعاقبة في العقود الأخيرة إلى حد بعيد في التهويل من ظاهرة الهجرة ومن انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على هذه البلدان، وقد زاد من حدوث بعض الأعمال “الإرهابية” في السنوات الأخيرة من جهة، واندلاع الأزمة المالية في تزايد العداء تجاه المهاجرين وربطهم بهذه المعضلات.
ويبدو أن هناك نوعاً من اللامبالاة والتقصير في تعاطي الاتحاد الأوروبي مع الظاهرة، حيث يغلّب المقاربة الأمنية في هذا الصدد، بممارسته لمختلف التضييقات في مواجهة طالبي الهجرة واللجوء، وباعتباره دول الضفة الجنوبية مجرد شرطي لتأمين حدوده الجنوبية في مواجهة هذه الهجرة التي أصبحت تطرح إشكالات اجتماعية وسياسية وإنسانية داخل هذه الدول نفسها أيضاً في غياب مقاربة شاملة ومتوازنة في هذا الصدد.
بل وصل الأمر إلى حد تطبيع فعاليات المجتمع المدني الأوروبي مع هذه الممارسات التي تتناقض في مجملها مع مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 14 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أنه “لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هرباً من الاضطهاد”، ومع العديد من المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان في علاقتها بالحق في الهجرة واللجوء تحت ضغط عوامل وظروف سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة..
تشير الكثير من التقارير إلى أن إيطاليا – وفي غياب التوزيع العادل لمسؤولية اللاجئين والهجرة السرية – بذلت جهوداً منفردة مهمة في سبيل إنقاذ الكثير من المهاجرين السريين بالمحاذاة مع شواطئها، وأمام تزايد عدد المهاجرين نحوها، دعت غير مرة دول الاتحاد الأوروبي إلى مساعدتها في بلورة جهود تكفل التعامل بجدية ومسؤولية مع الظاهرة.
غير أن دول الاتحاد الأوروبي ما زالت تفرض قيوداً كبيرة على الهجرة بشكل عام، بل أضحت تتهرب من مسؤوليتها المرتبطة باستقبال اللاجئين باعتمادها لقوانين متجاوزة أعدت في فترات مختلفة عن الواقع الدولي والإقليمي الراهن، حيث ما زال الكثير منها يضع قيوداً على استقبال هؤلاء اللاجئين، وتحمّل الدول التي وصل إليها المهاجر السري المسؤولية في هذا الصدد.
وهكذا أصبح الهاجس الأمني حاضراً بشكل كبير في التعاطي مع الظاهرة، وقد زادت من حدته في الفترة الأخيرة أحداث “شارلي إيبدو” التي شهدتها العاصمة الفرنسية.
وفي هذا السياق، أعلنت وكالة الشرطة الأوروبية “يوروبو” عن إحداث فريق خاص يسمى “فريق العمليات المشترك” لمحاصرة وصدّ العصابات الإجرامية التي تقف خلف تهريب البشر عبر المتوسط عبر جمع معلومات في هذا الصدد.
أصبح اللاجئون والمهاجرون السريون يعانون على جبهات عدة، فإذا كانت الدول التي ينتمي إليها اللاجئون ترى في استقبالهم من قبل بلدان أخرى عملاً ينطوي على قدر من العداء تجاهها، فإن هذه الأخيرة ومن منطلق أن منح حق اللجوء هو عمل يعبر عن سيادة الدول، كثيراً ما تطوقه بمجموعة من الشروط المجحفة.
يبدو أن الهجرة السرية في منطقة المتوسط مرشحة للارتفاع في ظل تفاقم الأوضاع السياسية في كل من ليبيا وسوريا وعدم بزوغ حل في الأفق القريب للأزمات المطروحة داخل البلدين، إضافة إلى استمرار تدهور الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في دول الساحل والصحراء، وعدم بلورة تعاون جنوب جنوب حقيقي وبناء يدعم تحقيق التنمية في هذه المناطق كسبيل لتعزيز الاستقرار والأمن.
ومما يعمق المشكل في هذا الصدد، هو غياب استراتيجية أوروبية موحدة في التعاطي بشكل إيجابي وبناء مع هذه الظاهرة الإنسانية بصورة توازن بين متطلبات الأمن من جهة وحقوق الإنسان من جهة أخرى.
* أستاذ باحث/”الخلي”