عندما تفتحت شهية الولايات المتحدة على منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد «الحرب العالمية الثانية» وبداية الحرب الباردة، وجدنا أن ما كنّا نسميه «الشرق الأدنى» قد تحوّل من القبضة الأوروبية ليسقط صريعاً في الحوزة الأميركية. وعندما تحدث الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور عن نظرية «الفراغ» في «الشرق الأوسط»، والتي حملت اسم «مبدأ إيزنهاور» فإننا كنّا نشير بوضوح إلى بداية مرحلة جديدة ارتبطت لدى الولايات المتحدة بعاملين رئيسين هما «اكتشاف النفط» في «الجزيرة والخليج» فضلاً عن قيام دولة إسرائيل وضرورة دعمها والتخديم عليها والسعي إلى ضمان أمنها.
وإذا أردنا أن نتدارس المعنى الحقيقي للسياسات الأميركية للإدارات المتعاقبة في واشنطن فإننا سنكتشف أن هناك عوامل مشتركة تحكم المسار العام للعلاقات الأميركية – العربية. ولعلي أطرح هنا عدداً من القضايا المتعلقة بهذا الشأن والتي تستحق التأمل خصوصاً في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها المنطقة:
أولاً: لقد اتبعت الولايات المتحدة موقفاً التزمت به عندما صدر مبدأ «مونرو» عام 1831 الذي كرَّس العزلة الأميركية والابتعاد من الصراعات الدولية والاقتصار على الاهتمام بشؤون الأميركتين الشمالية والجنوبية، على اعتبار أن دول أميركا اللاتينية ذات تماسٍ مباشر وتقاطعٍ مع الأمن القومي الأميركي. ولقد ظلت واشنطن محافظة على الالتزام بذلك المبدأ وابتعدت من الصراعات الأوروبية على الجانب الآخر من الأطلسي وظلت قوة ذات وضع خاص على الشاطئ الآخر من المحيط، لها هيبتها ولكن من دون الانخراط في السياسات العالمية حتى بدأت «الحرب العالمية الأولى»، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى أطلت الولايات المتحدة على العالم بصورة جديدة حققت لها مكسباً دولياً ضخماً انعكس على مبادئ رئيسها وودرو ويلسون، والتي تضمنت أربعة عشر بنداً قامت على أساسها عصبة الأمم بعد انعقاد مؤتمر «فرساي» للسلام. ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة فاعل رئيس في السياسة الدولية العالمية، وكأنما تولت «مبادئ ويلسون» إسقاط «مبدأ مونرو» الذي كان يدعو إلى العزلة والابتعاد من الشؤون الدولية.
ثانياً: عندما ظهرت نتائج الأفكار الأوروبية الكبرى بدءاً من «الدارونية» مروراً بالتحولات الماركسية وصولاً إلى التفسيرات «الفرويدية» بدا واضحاً أن العالم يتهيأ لمرحلة جديدة من مراحل التغيير الكبرى وأن «التفسير المادي للتاريخ» أصبح يقسم الفكر الإنساني إلى معسكرين قبل أن تقسمه الثورة البلشفية إلى جانبين. وجاء فلاديمير لينين بتصوراته لدولة كبرى في روسيا على أنقاض «الحكم القيصري»، بينما أدت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى إلى ظهور «النازية» بزعامة أدولف هتلر الذي حاول أن يكتسح الدول الأوروبية المجاورة إيذاناً ببدء «الحرب العالمية الثانية» التي انتهت بدحره وانتصار «الحلفاء»، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، بعد موقعة «بيرل هاربر» وإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناكازاكي. وكان ذلك معناه أن الولايات المتحدة أصبحت رسمياً هي قائدة المعسكر الغربي وزعيمة العالم الرأسمالي. عندها تفتحت شهيتها للهيمنة الدولية والسيطرة على مفاتيح السياسة والحكم في قارات العالم المختلفة، وكأنما سلمت أوروبا الغربية الراية إلى واشنطن في ظل أجواء «الحرب الباردة» التي كادت تعصف بأجواء السلام الهش، خصوصاً عندما ابتدع وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس سياسة «حافة الهاوية»، وهو ما وضع العالم على مشارف حربٍ عالمية ثالثة أكثر من مرة، لكنه استطاع تفاديها ليستبدل بها الحروب الأميركية مباشرة أو بالوكالة عنها بدءاً من «الحرب الكورية» مروراً «بالحرب الفيتنامية» وصولاً إلى مواجهات غرب آسيا وحروب «الشرق الأوسط» المرتبطة بالنزاع العربي – الإسرائيلي. ولعلنا لا ننسى أزمة «خليج الخنازير» التي وصلت بالمواجهة إلى ذروتها بتحريك الصواريخ نحو كوبا في إشارة إلى احتمال وقوع حرب نووية. وعندها وقف العالم على أطراف أصابعه حتى دق الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف بحذائه على المنضدة في اجتماع الأمم المتحدة، وكانت تلك قمة المواجهة في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
ثالثاً: لقد خرج العرب من الحرب العالمية الأولى «كالأيتام على مائدة اللئام»، فقد خدعتهم بريطانيا بل والحلفاء عموماً عندما استمالوهم بوعودٍ زائفة بالاستقلال وقيام «المملكة العربية الكبرى» بزعامة الشريف حسين شرط الانحياز إليهم ضد القوى المعادية لمعسكر الحلفاء. خرج العرب من الحرب العالمية الأولى لمواجهة تطبيق عملي لسياسة سايكس – بيكو التي جرى بها تقسيم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا. ويبدو أن المنطقة العربية دائماً هي محل مقايضات بين القوى المختلفة دولياً وإقليمياً، ولعلنا نتطلع إلى يومٍ يملك فيه العرب قرار مستقبلهم من دون غيرهم.
رابعاً: لقد كان قيام ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 في مصر في أعقاب مجموعة الانقلابات العسكرية في سورية بمثابة تحول جذري في المنطقة العربية. وأعقب ذلك اندلاع الثورة الجزائرية الباسلة، وبدأ الاستعماران البريطاني والفرنسي يحملان عصاهما على كاهلهما إيذاناً بالرحيل. وحينذاك بدأ النفوذ الأميركي يتزايد في المنطقة وتفتحت شهوة واشنطن تجاه العالم العربي في شكل سافر، خصوصاً عندما دعمت السياسة التوسعية العدوانية الاستيطانية الإسرائيلية التي تقوم بالسطو الدائم على حاضر المنطقة من أجل تشويه ماضيها وسرقة مستقبلها. ولا أظن أن ظهور التنظيمات الإرهابية بعيدٌ من اليد الإسرائيلية المدعومة أميركياً والتي تريد للدولة العبرية أن تكون واحة الأمان الوحيدة وبؤرة التقدم بينما تعود الدول من حولها إلى القرن الثامن عشر أو ما قبله. وأدى تنامي الحركة القومية في العالم العربي إلى مزيد من العداء من جانب الولايات المتحدة التي تفضل أن تدعم «التيارات الإسلامية المتطرفة» في مواجهة «التيارات القومية» في الدولة الوطنية.
خامساً: دعمت الولايات المتحدة الأنظمة العسكرية في معظم الدول العربية واختارت ولاءات الحكام على حساب انتماءات الشعوب، ولم تنظر إلى المصالح الحقيقية للجماهير العربية وفضلت دائماً الاعتماد على ركائز موقتة في المنطقة. وأدى ذلك كله إلى حال الانفجار غير المحسوب الذي اندلع منذ العام 2011 مكتسحاً أمامه أنظمة انتهى عمرها الافتراضي وفقدت صلاحيتها وأصابتها الشيخوخة والترهل وظهر فيها الفساد والاستبداد. لكن نتائج ثورات الربيع العربي لم تكن قط كما توقعت تلك الشعوب، بل كانت على العكس من ذلك نتائج متراجعة أدت إلى حال من الارتباك تقترب من مفهوم «الفوضى الخلاقة» التي أرادتها للمنطقة وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة كوندوليزا رايس. ولم يتوقف الدور الأميركي عند هذا الحد بل اتخذ مواقف أخرى تجاه معظم الدول العربية بحيث أصبح الداعم الرئيس لسياسات إسرائيل وزاد على ذلك قيامه بتحريض غير مباشر لقوى التطرف في المنطقة، لمصلحة إسرائيل التي تضع الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
سادساً: إن تطور العلاقات بين واشنطن وطهران هو تأكيد جديد على الأسلوب الأميركي المراوغ على حساب البلاد العربية وأمنها ومستقبلها. وها نحن نرى العالم العربي يقف على المستوى الإقليمي بين محاور ثلاثة هي إيران وتركيا وإسرائيل بينما يتراجع المد القومي أحياناً لحساب المد الديني غالباً، وتلك نقطة مثيرة للجدل خصوصاً في ما يتصل بدول الجوار وتأثيرها في العلاقات العربية – العربية وفي العلاقات العربية – الدولية. إننا أمام مشهدٍ جديد تمارس فيه إيران دوراً أساسياً كي تتحوَّل من جديد إلى «شرطي الخليج» حيث يحل «الملالي» محل «الشاه» الذي كان يلعب الدور نفسه في عقودٍ مضت، كما أن الدور التركي الغامض يلعب هو الآخر في اتجاه الدولة الدينية على حساب الدولة الوطنية العربية المستقلة. أما إسرائيل فطريقها معروف ودورها مكشوف.
سابعاً: إن موجات الإرهاب التي تجتاح المنطقة العربية وأجزاء من القارة الأفريقية ومناطق في أواسط وغرب آسيا هي كلها دليلٌ على الرغبة الجامحة في تعطيل مسيرة عالمينا العربي والإسلامي وسحب مفاتيح التقدم منهما ووصفهما أمام العالم كله بأنهما صناع الإرهاب بينما هما في الحقيقة من ضحاياه، ويكفي أن نتأمل إصرار الإعلام الغربي على استخدام تعبير «الدولة الإسلامية» بديلاً لتنظيم «داعش»، وكأنما يريد أن يؤكد أن الإسلام هو المسؤول عن الإرهاب والتطرف الذي نشهده في المنطقة بينما الإسلام هو دين التسامح واحترام الديانات الأخرى وأتباعها، خصوصاً الأشقاء من «أهل الكتاب». ولا شك في أن هذه الوصمة الجديدة تصيب الجميع بحال ارتباكٍ تنعكس على الواقع العربي المعاصر وما تشهده المنطقة من تدهورٍ وفوضى في أنحائها المختلفة.
هذا طواف عابر في محطات العلاقات الأميركية – العربية، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وكلها تزيدنا إيماناً بأن الأحلام العربية تواجهها على الجانب الآخر أوهام أميركية.
* سياسي مصري/”الحياة”