لست من القوم الذين يدّعون أن شعبهم ليس كغيره من الشعوب العربية، هذا الوهم الأبله الذي سُوّق كثيرا لشعوب تطحنها اليوم محن لا نظير لها في تاريخ الأمة المعاصر، لطالما سمعنا تجار الكلام والقلم يهرفون بتلكم العبارة الحمقاء، كرد حاسم في تصورهم المتخلف، على إرهاصات حينها تنذر بخطر داهم؛ كما أني لست مغفلا ولن أسمح لنفسي باستغفال القارئ خاصة الجزائري، لأعتمد قاعدة اجترها قوم السلطة في الجزائر، منذ بدء حراك الشارع العربي، مفادها أن الشعب الجزائري قد جرب ما يسمى بالربيع، واستخلص العبر والنتائج وحصد زرعه، وقد تجاوز بوعيه هذه المحطة بسنوات؛ وإن بدا القول صحيحا في جانب، إلا أن صاحبه أغفل أمرا بالغ الخطر، يتكون من ثلاث محركات يفترض ألا تسقط من حسابات أي مسؤول واعي، أولها: جيلٌ وُلد في تسعينيات القرن الماضي، لم يشهد مآسي عشريتها، ولم يعش تفاصيلها المأساوية، لكي يتوهم القوم أنها تشكل رادعا، يحول دون مغامرته بالذهاب بعيدا في احتجاجه؛ المحرك الثاني هو فضاء التواصل المفتوح، ومنافذ الدخول إلى قاع المجتمع لتوجهه بالصورة الواقعية أو المركبة نحو أهداف مروّجيها، باتت مشرعة متاحة في الاتجاهين، وهو عامل قوي ومؤثر لا يغفل خطره إلا مغيب العقل؛ وأخيرا انتقال التعاون بين أنظمة عربية وغربية من السر إلى العلن، بعد أن أجهزت بشكل كامل على دولتي العراق وليبيا، وأغرقت سورية في دوامة لم نعد نرى لها نهاية، وزجت بمصر واليمن في متاهة لونها أحمر لا محالة، ما يعني أنها فرغت مما دبرت، وبات إدخال الجزائر في نفس الطاحونة مسألة وقت ليس إلا. هذه المحركات الثلاثة على واقعيتها وشدة خطرها، على ما يبدو غائبة بشكل فج ملحوظ، من ساحة تفكير عقل صانع القرار الجزائري.
وحين أتساءل في عنوان المقال عن “الشعب الجزائري” وليس صناع قرار دولته، فإنما لما سبق ذكره، ولا أخفي كذلك هنا وبكل صراحة وصدق، غياب الطبقة السياسية والنخب الفكرية، التي يفترض أن المُعوّل عليها في حالات تنكب السلطة عن صراط الصالح العام، ذلك أن الوجوه التي تمثل هذه الطبقة ليست في الواقع أقل سوء من السلطة ذاتها، بل ولها قابلية أكثر للمتاجرة بالوطن كله، تماما مثلما نرى لدى شعوب عربية شقيقة، وأحزابها ووسائل إعلامها لا تزيد عن كونها سجلات تجارية، تفتح نوافذ دكاكينها في كل مؤسسات السلطة مشاركة، تستثمر بنهم شديد لا يعرف حياء، ما أمكنها من ترف وكماليات، فضلا عن الاستغلال المشين في مقايضة المواقف، بمشاريع تجارية وقطع أراضي وقروض بنكية، ونهب لأملاك الدولة من العقارات العالية الثمن، ثم المضاربة بها في سوق أثرياء الحرب الدموية الأخيرة، وعصابات الاستيراد والاستيراد؛ حتى ليُخيّل للمرء من شدة فسادها الظاهر أنه في صقلية الايطالية من سبعينيات القرن الماضي؛ ولست أبالغ حين أقول بأن هذه الطبقة هي الوجه الآخر لعملة الإفلاس، التي يعكس نظام الحكم وجهها الأول، وكما أن الأخير يرفع في وجه الشعب خطر التدخل الخارجي، لتمرير مشاريعه ومخططاته، ترفع هي بدورها خطر الانفجار الداخلي لكن لذات الأهداف والغايات، وكليهما يعدم مفهوم الدولة ويلغي قيمة الوطن؛ إذن لا يعول العاقل على من هم من هذا الشاكلة، التي تتحمّل مناصفة دون انتقاص، مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلد الداخلية.
يخطئ التقدير من يتصور أن الأزمة محصورة في احتجاج سكان مدينة عين صالح بولاية (محافظة) تمنراست التي تقع جنوب العاصمة بحوالي 2000كلم، حول قضية الغاز الصخري وشركتي هاليبورتن Halliburton Energy Services وتوتال Total سيئتا الصيت في الجزائر بل وفي العالم العربي؛ بل هي أعمق وأعم وطبيعتها قابلة للانتشار السريع، خاصة إذا أساءت السلطة كما يبدوالتعامل معها وأضيف لذلك النفخ الإعلامي الخارجي؛ كما شاهدنا بالأمس مع بعض الفضائيات العربية، التي باتت متخصصة في هذا الشأن، بذريعة الدفاع عن حقوق الشعوب وحرية التعبير.
إن اعتبار البحث عن الغاز الصخري قضية لا يمكن التراجع عنها، استجابة لسكان المنطقة التي عبروا عنها سلميا على امتداد أكثر من شهرين، يؤكد سوء تقدير السلطة لمآلات الأحداث، وإمكانية تدحرجها نحوما لا يحمد عقباه، خاصة والجزائر في سعة من حالها، واحتياطها من العملة الصعبة يتجاوز 300 مليار دولار، والغاز الصخري ليس حاجة آنية مستعجلة، ولا هوثروة ستتبخر بين عشية وضحاها، بل لعل تأجيل التنقيب لسنوات قد يكون مفيدا، إذا ما نجحت دول مثل الولايات المتحدة في إبداع وسائل وآلات، تُخفّض من قيمة الاستخراج العالية حاليا؛ ومن الخطر القاتل أن يفهم الشعب بأن السلطة قدمت مصلحة الشركات الأجنبية على مصلحته ومطلبه المشروع؛ حتى وإن سلمنا بأن نواب البرلمان (المفبرك الإمعة) قد صادقوا على قانون التنقيب، فالمنطق يفرض قاعدة: أن الشعب هو مصدر التشريع والشرعية، خاصة في مثل محطات كهذه بالغة الحساسية والخطر.
لقد دعونا من هذا المنبر “رأي اليوم”، وقبله من صحيفة القدس العربي (2009/2010)، القيادة الجزائرية للمسارعة لإصلاح ذاتي داخلي، وذلك قبل كل الأحداث التي اجتاحت العالم العربي، وكان حريا بها إذ لم تأخذ نصحنا مأخذ الجد، أن تبادر بعد أن عاينت كيف صنعت الأحداث في ليبيا وسورية خصوصا، وكيف سيقت شعوب إلى حروب داخلية طاحنة، لم تكن مقدماتها سوى مطالب مشروعة ابتداء، ولم تمهل القوى الأجنبية القيادات لتتدارك أمرها، فنفخت في كيرها وألهبت الجميع؛ لكن ومع الأسف الشديد يبدوأن القيادة في الجزائر ماضية في نفس الطريق، الذي لن ينتهي بالضرورة لا سمح الله ولا قدر، إلا لنفس النتائج الوخيمة المدمرة.
إذا أردت تلخيص المشهد الجزائري، فإن كل الشعب يعاني من غبن شديد وظلم فاحش في توزيع الثروة الوطنية، فضلا عن سوء التسيير وغيره مما لا يتسع المقال لذكره، لكن هذا الغبن والظلم يتراكمان صعودا من الشمال إلى الجنوب، ينعكسان على جميع مناحي الحياة، حتى إذا وصلت آخر مدينة جنوب الجزائر، اكتشفت أنك تقف على أعلى قمة ظلم وغبن فيها، مع أن باطن أرضها هوالثروة الوحيدة الآن التي يعيش بها كل الشعب الجزائري.
ختاما، نرجوألا يكون قد فات وقت التدارك، ويعمل من بيدهم القرار، أولا على التغيير الفوري للحكومة ووزيرها الأول، ليس فقط بسبب فشل سياساتها في تسيير الشأن العام الداخلي، ما فتح المجال لاضطرابات تهدد استقرار البلد، وإنما كذلك لافتقار وزرائها المعنيين للقدرة على التواصل مع الشعب، وعجزهم عن إدارة الأزمات مع الانعدام الكلي للمرونة السياسية، فضلا عن الوعي بالمسؤولية، وهذا من شأنه أن يهدد الأمن القومي دون أدنى مبالغة، ويفتح أبواب الجحيم على الجميع؛ يقابله تعيين حكومة من التكنوقراط تضطلع بمهمة تسيير مرحلة انتقالية، يكون أول قراراتها إلغاء عقود التنقيب عن الغاز الصخري، وتعتني جديا بتوزيع عادل للثروة الوطنية، تكون الأولوية فيها لأهلنا في الجنوب. فضلا عن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في أقرب الآجال الممكنة.
يعرف جيدا القارئ المتابع، أن الكاتب لا يحسب من أبواق السلطة التي تعاني من زهايمر سياسي متقدم، ولا ينتسب للمعارضة المرتزقة التي لا تتورع في استغلال أي حدث للمتاجرة به؛ ومن هذا الموقع يمكنه أن يرى حق المواطن المشروع، دون أن يحجب ذلك عنه رؤية الخطر الخارجي الواقعي، ولا يؤمن بأن الخطر الخارجي حجة تمنع المواطن من المطالبة بإقامة العدل، وبين هذا وذاك خط رفيع للغاية لا يميزه إلا الحكماء؛ ومن المؤسف أن الشق الفاصل بين الرؤيتين، هوبعينه مدخل العدوالخارجي والداخلي، وهنا أذكر أنني لم أفاجأ حين وصلتني البارحة صور من سكان مدينة عين صالح، بخصوص الاحتكاك بين المواطنين وعناصر الأمن، التي وقع على إثرها عدد من الجرحى، حين وقع نظري على صور لخراطيش رصاص، من النوعية التي تستعمل لبنادق الصيد، ما يعني بأن الأسلحة التي استعملت لا تعود لعناصر الأمن قطعا، كما أنها لا تعود للمحتجين يقينا، بل هي لطرف ثالث دخل على خط الأزمة، وهذا ما يجعل الأمر خطيرا للغاية ما لم ينتبه الجميع له.
وإن كنت لا أعول كثيرا على وعي القيادة الجزائرية لعلمي بمستواه المتدني للغاية، فإني أطمع جدا في وعي الشعب الجزائري، الذي يتابع منذ أربع سنوات ما فُعل بسورية وبالجارة ليبيا، وينتبه لأن طبيعة العالم اليوم، باتت لا تسمح لأي حراك شعبي أن يبقى مستقلا بذاته، وأننا مع الأسف وصدقا مع الذات نفتقر لقيادات مدنية مثل تلكم التي أطّرت الشارع التونسي وحمت حراكه، ما يستدعي الحذر الشديد عند أي تحرك، حتى لا يتم توظيفه من قبل متسلقي السلطة، أووجوه ما يسمى بالمعارضة التي لا تزيد عن كونها طفيليات وطحالب تقتات على السلطة ذاتها، أومن الخارج وما أكثر المتربصين بالجزائر عربا وغربا…. اللهم سلم سلم….. فالله وحده أعلم هل يتجاوز الشعب الجزائري هذه الفتنة بنجاح، أم تُدفع الأحداث دفعا، لتحترق الجزائر لا قدر الله كما غيرها من البلدان العربية.
*فلاح جزائري/”رأي اليوم”