الشعبان التونسي والليبي لهما مصير مشترك. فبين البلدين مشتركات حضاريّة وتاريخيّة وجغرافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. المسألة السياسيّة أيضا هي من المشتركات الكبرى بين البلدين والشعبين. وما يحدث في أحد البلدين ينعكس على الآخر ويؤثر فيه بشكل مباشر. من ذلك أنّ ما يعرف في ليبيا بثورة 17 فبراير ضدّ نظام معمر القذافي كانت قد اشتعلت بعد شهر ونيف عن نجاح الثورة التونسية في إسقاط نظام حكم زين العابدين بن علي في تونس يوم 14 يناير 2011. ورغم أنّ تونس كانت تترنح وقتها اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، إلاّ أنها تحمّلت ضغط أكثر من 3 ملايين لاجئ من الليبيين ومن جنسيات مختلفة.
ولكن خلافا لتونس التي نجحت، إلى حد كبير، في تثبيت خيار مدني ديمقراطي قائم على دولة القانون والدستور والمؤسسات والتداول السلمي على السلطة عبر الانتخابات، فإن ليبيا تعاورتها الأعادي من الداخل والخارج، وتكالبت عليها السابلة التكفيرية، وقد اختارتها لتكون قاعدتها في المغرب بعد أن ركّزت قاعدتها في المشرق في العراق والشام.
ولكن الدبلوماسية التونسية لا يبدو أنها قد وجدت المنهج المناسب للإحاطة بالمسألة الليبية ولإمساك الخيوط الرئيسية لها، بينما استشعرت القوى التقدمية التونسية والمجتمع المدني والنخب الإعلامية والفكرية جميعها، مبكرا، خطورة ما يحدث في ليبيا الجارة الشقيقة المترامية الأطراف على الحدود الجنوبية لتونس. فلا يمكن أن تتكدّس ملايين قطع السلاح في ليبيا، وأن تتنادى إليها كلّ تلك التنظيمات التكفيرية دون أن تشكّل خطرا على تونس.
يخطئ الكثير من المحلّلين ومن المسؤولين في تأجيل التعاطي الاستراتيجي الحاسم مع الوضع الليبي. فتونس هدف محقّق للتنظيمات الليبية سيأتي الدور عليها حتما متى تمّ لها الأمر في ليبيا. طبعا الشعب الليبي وجيشه الوطني يقاومان الإرهاب التكفيري، ولكن يبدو أنّ موازين القوى تميل إلى هذه التنظيمات التي لا تقيم في الصحراء الجنوبية كما يردّد البعض، بل تتمركز في السواحل والخلجان الشمالية والشمالية الشرقية في درنة وسرت قريبا من الموانئ مصدر الثروة النفطية والدعم اللوجستي والبشري.
خليج سرت ثري جدّا يقع على البحر الأبيض المتوسط، ويضم مناطق راس لانوف والبريقة واجدابيا الغنية بالنفط. وسرت هي منطقة استراتيجية ثرية في منتصف الطريق بين طرابلس وبنغازي، وإعلانها ولاية “داعشية” يعد إنذارا حاسما بالخطر المحدق بتونس. وإذا وضعنا في الاعتبار أنّ سرت تأتي في نفس الخط الساحلي الشمالي مع درنة وتبرق، إمارتيْ أنصار الشريعة، ومع زوارة والزاوية اللتين تسيطر عليهما مليشيات فجر ليبيا فهنا حجم هذا الخطر. فلم يبق من ليبيا، عمليا، خارج نفوذ التنظيمات التكفيرية إلا مدينتا طرابلس وبنغازي اللتان يتقاسمهما برلمانان وحكومتان وجيشان وطنيان.
وهاتان المدينتان الكبيرتان والمتناحرتان سياسيا كلّ منهما محاصرة جغرافيا من قبل التنظيمات المتطرفة المنتشرة حولها. فبنغازي يحيط بها أنصار الشريعة في درنة وبرقة غربا وداعش في سرت شرقا. أمّا طرابلس فتقع فريسة مهدّدة بميليشيات ثوّار مصراتة وداعش في سرت غربها، ومليشيات فجر ليبيا في زوارة غربا على الحدود مع تونس.
الفيديو الذي بثّه تنظيم داعش يصوّر فيه ذبح أقباط مصريين يحمل رسائل متعددة، منها تفكيك ما هو موجّه بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تونس. فتونس كانت تعتقد أنّ الخطر الإرهابي ما زال بعيدا عنها في درنة غـرب بنغازي. وكانت تعتقد أنّ مصر هي المهدّدة بشكل مباشر، رغم أنّ المعلومات التي تحتكم عليها السلطات التونسية تقول إنّ تنظيم أنصار الشريعة، المحظور في تونس، يتمركز في درنة بعد أن استقرّ زعيمه أبو عياض فيها بعد تسهيل هروبه من تونس في حكومة الترويكا الأولى من قبل أجهزة الداخلية في وزارة النهضوي علي لعريض.
ورغم تواجد هذا الخطر الحقيقي الموجّه رأسا إلى تونس في درنة الليبية فإنّ الأجهزة التونسية لم تسع إلى اختراقها مخابراتيا واستعلاميا. ولا أحد يعلم السبب الحقيقي وراء ذلك، إن كان التراخي والتهاون في المصلحة الوطنية العليا، أم العجز. فما هو ثابت أنّ دول جوار ليبيا متواجدة دبلوماسيا ومخابراتيا وحتى قبليا وعرفيا هناك، لاسيما الجزائر ومصر والنيجر. بينما تونس وجودها ضعيف ومرتبك بدليل أنّها لم تتمكّن من وضع استراتيجيا دبلوماسية خاصة بليبيا، ولم تكون طاقما دبلوماسيا خاصا لهذا الوضع الخاص. والدليل على ذلك عجز السلطات التونسية عن التعاطي مع ملف الصحفيين المختطفين في ليبيا سفيان الشورابي ونذير القطاري منذ 6 أشهر.
ومن أخطر الأدلّة على هذا تعثر السلطات التونسية في التعاطي مع الشأن الليبي بالخصوصيات التي تم التعرض إليها بشكل إجمالي في هذا المقال، الأحداث التي اندلعت بشكل متواز في بن قردان وذهيبة المنطقتين الحدوديّتين بين تونس وليبيا. فالحكومة التونسية الجديدة بدا بشكل صريح أنّها لم تفكّر بعد في هذه المشكلة، وأنّها لا تملك رؤية واستراتيجية واضحة لمواجهة المخاطر القادمة من ليبيا. فالمشكلة الحدودية معقدة، إذ أنّ هذه المناطق تعيش من التجارة المشتركة بين التونسيين والليبيين. ولكن أغلب الأنشطة المتداولة تدور خارج القانون وبعيدا عن مراقبة الدولة التي كانت تغض الطرف عن هذه الأنشطة عجزا عن مواجهتها، أوّلا، وتواكلا منها في أداء دورها التنموي، ثانيا، وغياب خطر الإرهاب والسلاح، ثالثا. وكلّما حاولت الدولة التحرّك ضدّ أنشطة التهريب لأسباب أغلبها سياسية متى نشب سوء تفاهم بين النظامين السابقين في كلّ من تونس وليبيا، عجزت عن ذلك ولقيت مقاومة شديدة آخرها كانت أحداث بن قردان سنة 2010.
الجديد في الأحداث الأخيرة في المنطقتين الحدوديتين هو ما بدا وكأنّه أمر مدبّر بين أطراف متعدّدة تونسية وليبية. فبمجرد اندلاع الاحتجاجات تواجدت أطراف حزبية بشكل سريع أمام كاميراوات الإعلام لتبدو في صورة المطّلع الخبير الذي يعرض وساطة هي أقرب إلى مساومة مفادها أنّ هدوء الاحتجاجات في الجانب الحدودي التونسي يكون مقابل الاعتراف بميليشيات فجر ليبيا التي تحارب الحكومة والجيش الليبيين. وفي الوقت الذي تواجه فيه السلطات التونسية هذه المساومة الرخيصة من فجر ليبيا وعرابيهم من السياسيين التونسيين يأتي فيديو ذبح الأقباط المصريين من سرت في الجهة الغربية من طرابلس.
احتجاجات المناطق الحدودية وإعلان سرت إمارة داعشية بعد درنة وبرقة إمارتي أنصار الشريعة، والمساومة الرخيصة من ميليشيا فجر ليبيا في زوارة على الحدود التونسية، ووجود أطراف حزبية ممثلة في البرلمان وكانت في الحكم زمن الترويكا بالقرب من منطقة التوتّر تجعل تونس في منطقة خطر كبيرة. فليس أخطر من الإرهاب الخارجي عندما يجد سندا سياسيا ولوجستيا وإعلاميا من الداخل.
هناك أطراف سياسيّة تونسيّة لم تغيّر علاقتها مع التكفير والتشدّد رغم كلّ المآسي التي عاشتها هذه الأمّة مشرقا ومغربا. فلمّا كانت هذه الأطراف في الحكم لم تدّخر جهدا في المساعدة على زرع التشدّد والأصولية والتكفير في أرض تونس. وبعد أن خرجت من الحكم ضاعفت في نسق لعبها لهذا الدور. وهي تعيش حالة التباس في وظيفة المعارضة. فالمعارضة تؤدّيها أطراف سياسية بشكل وطني لا يساوم في وحدة تونس وسلامتها وأمنها. ولكن الأطراف التي تتوسط لميليشيا فجر ليبيا، وتساوم على أمن تونس مقابل الاعتراف بها تمارس المعارضة السياسية بشكل تخريبي يهدد تونس وشعبها.
*كاتب وباحث سياسي من تونس/”العرب”