المغرب وتونس وليبيا دول تجمعها قواسم مشتركة كدول عربية ومغاربية وإفريقية ومتوسطية.. وكل دولة لها نموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وكل واحدة منها تكيفت مع الأوضاع السياسية الخاصة بها في السنوات الأربع الأخيرة انطلاقاً من إرثها التاريخي والسياسي وحكمة قادتها وساستها ونضج فاعليها السياسيين والاجتماعيين وقدرتهم على فهم الواقع والممكن، والتأثير على مجريات الأحداث.
والمغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي تعتبر استثناءً من حيث الانفتاح السياسي الذي طبق منذ وقت طويل، وهو الذي وصل ميثاقه السياسي والتعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والمعارضة إلى بر الأمان؛ فحكمة الملكية ونضج الفاعلين السياسيين مكنا الجميع من تصور مجال سياسي عام يجنب البلاد ويلات الفوضى والمجهول واللامسؤولية.
أما تونس فقد عاشت لعقود في ظل التجمع الدستوري الديمقراطي كحزب مهيمن على جميع الأطياف السياسية، استحوذ رئيسه الذي كان رئيساً للجمهورية على كل مفاصل القرار السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عالم سياسي معولم لا يرحم وفي ظل بنية سكانية متحضرة ومتعلمة، فكانت ثورة الياسمين وما تبعها من بناء للدولة والمؤسسات طيلة الأربع سنوات الماضية، ثم إن الجيش كان مسؤولًا وغير متهور، بل كان يقوم بدوره كحام محايد لحمى الوطن والدولة والمؤسسات. وكذلك لا النخبة السياسية التونسية كانت دون المستوى المطلوب، بمعنى أن النضج السياسي لدى المجتمع ولدى الفاعلين السياسيين عموماً هو القاعدة الأولى في أي بناء سياسي ديمقراطي جديد وبدونه لا يمكن أن تكتمل لبنات البناء ولا متانة الصرح، وهذا النضج هو الذي مكن قبل أيام حكومة الحبيب الصيد من أداء اليمين الدستورية أمام رئيس البلاد الباجي قائد السبسي.
أما ليبيا التي تخلصت من نظام القذافي، فتعيش حروباً داخلية مدمرة.. فليبيا التي كانت تنتج أكثر من مليون ونصف مليون برميل من النفط يومياً قبل الثورة على نظام القذافي في سنة 2011 لا تنتج حالياً إلا 350 ألف برميل، وقد حذرت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في الأيام الأخيرة من أن ليبيا قد تواجه الإفلاس.. وهناك خريطة سوداء عن مكونات المجموعات المتقاتلة في ليبيا تدور كلها حول عوامل العصبيات الجهوية والقبلية والنفط والتوظيف السياسي الخاطئ للدين والصراع حول السلطة باسم هذه الطائفة أو تلك.
ومع هذا فمقاليد بناء ليبيا موجودة عند الليبيين. فهناك زعماء قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة، وكلها منتشرة في عموم ليبيا وتتركز في الوسط. وهناك قادة قبائل الشرق خاصة قبائل العبيدات والقطعان والمنفة والفرجان. وهناك زعيما قبيلتي التبو والطوارق في الجنوب والجنوب الغربي من البلاد. وهناك النائب باشاغا وأنصاره، وهو في مدينة مصراتة والمدن القريبة من طرابلس في غرب البلاد. ثم هناك، وهذا هو المهم، الجيش الوطني وتركيبته التي قد تحتاج إلى إعادة هيكلة.
فهؤلاء جميعاً بإمكانهم أن يضغطوا على مجريات الأمور لوقف النزيف الخطير الذي يفتك بمصير شعب بأكمله… والأدهى من هذا كله أن الكثير من المتتبعين للشأن الليبي يرون أن المليشيات كلها مكونات هشة يسهل القضاء عليها إذا كانت هناك الرغبة والنضج السياسيان الكافيان لذلك، وخاصة إذا توحدت القيادات القبلية والعسكرية والسياسية المتواجدة في البلاد… وهناك أسماء لضباط لديهم القدرة على حشد الآلاف من الجنود التابعين لهم وهم خارج الخدمة بعد انهيار نظام القذافي، ولكن الأطراف الموجودة في الصورة ودول الجوار تتجاهلهم.
إن هذه الدول الثلاث لها مسارات سياسية مختلفة تماماً… فالمغرب دولة تمكن منذ زمان من وضع أسس تعاقد اجتماعي وحياة سياسية قارة في تطور ودينامية دائمة؛ وتتحول فيها سلطة الدولة إلى ميدان للمنافسة الحرة والنزيهة، والتناوب السياسي لم يكن وليد اللحظة وإنما وصل إلى نضجه سنة 1998 عندما وصل القيادي السياسي المعارض عبدالرحمن اليوسفي إلى رئاسة الحكومة في المغرب… ولا إخال أحداً يخالفني بأنه إضافة إلى قدم التجربة المغربية، فإن النضج السياسي وإعلاء مصلحة البلاد والوطن على كل مسمى، هو الذي أوصل البلاد إلى هذه القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدون أي تثوير ولا تهييج، وهي التي تحتاج إليها ليبيا اليوم، وهي التي تحاول تونس أن تضعها على السكة الصحيحة أيضاً.
*رئيس المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية/”الاتحاد” الاماراتية