اخترت مصطلح الحرب الدافئة لأنه يجسد المنطقة الرمادية بين الحرب الباردة والحرب الساخنة، وبالرغم من عدم تداول هذا المصطلح وقد يكون لأول مرة، إلا انه يوصف الفشل الدولي، والجشع السياسي الغير منضبط بقانون حاكم او قواعد آمره مندرجة في القانون الدولي، ونشهد سخونة المحاور الجيواستراتيجية كمحاور جيوقارية وعالمية، ولعل اكثرها سخونة المحور الاسيوي والذي يطلق عليه الشرق الاوسط وكذلك المحور الافريقي الذي سبق الاسيوي بعقود من القتل والحروب والنزاعات والانقلابات والأوبئة والمجاعة، وبالرغم من ان هذه القارة متخمة بالموارد الاستراتيجية المهمة والخصوبة الزراعية والطبيعة المؤثرة للسياحة الا انها مسرحا للحرب، ولعلي سأنتقي المحور الجيواستراتيجي الاسيوي في الشرق الاوسط ومدى سخونة صناعة الاحداث فيه، بحيث تخطت معايير الحرب الباردة خصوصا مطلع العقد الحالي، بعد ان هدمت القواعد والقوانين الآمرة التي نصت عليها صكوك النسق الدولي، وأضحت المنطقة برمتها كرة نار ملتهبة تلتهم كل مقومات الدولة والمجتمع والبنى التحتية الانسانية والمجتمعية، لنصحو على عالم مضطرب تسوده الحروب المصنعة ذات الطابع التجاري الهدام، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان سوق الحرب والأمن تفوق عائداته النفط والغاز والذهب وهذا يبرر العقيدة العالمية نحو سوق الحرب.
الحرب الدافئة
اخرجت هذا المصطلح وقد يكون متداول لأول مرة، بناءً على ما تجسده حقائق الواقع السياسي العالمي والإقليمي ومخرجاته الحربية، في ظل الصراع المتقد بين عناصر القدرة الدولية المتحكمة بقرار الحرب والسلم منذ نهاية الحرب العالمية 1945، ولم يعد هناك مشهد القطب الواحد كما حصل بعد تسعينيات القرن الماضي، خصوصا بعد التخبط الامريكي في توظيف القوة التي كان من المفترض ان تكون لصالح العدالة الدولية وبسط الامن والسلم الدوليين، ولكن حرب الضرورة والاختيار كما اسمها “ريتشارد هاس ” في كتابه (حرب الضرورة وحرب الاختيار) 2009، لم تكن كما نعرفها في صناعة واتخاذ قرارات الحرب، بل كانت قرارات حرب مستعجلة تتسق بالمفاهيم التجارية لسوق الحرب اكثر ما ترتبط بالمعايير العسكرية لشن الحرب، والحرب هي نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات الغير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي، وكما قال المنظر العسكري “كارل فون كلاوزفيتز” في كتابه عن الحرب أنها “عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم على وسائل مختلفة.” والحرب هي عبارة عن تفاعل بين اثنين أو أكثر من القوى المتعارضة والتي لديها “صراع في الرغبات، ومن هنا نجد ان كلا حربي افغانستان والعراق لم تكن قرارات مدروسة عسكريا ولكنها معتمدة على فيض القوه الامريكية التي تعاظمت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بغض النظر عن التجارب التاريخية الفاشلة لاحتلال هذين البلدين، وبعد الانهاك الذي حصل للقوات الامريكية في افغانستان والعراق، كانت دول القدرة الدولية تنظر وقوع القوة الامريكية في فخ الحرب الغير متوازية في العراق وأفغانستان، وهذا الفخ استثمرته الدول الفاعلة المتنافسة على الصدارة مع اميركا ووظفته دول اقليمية لملئ الفراغ في كلا البلدين، ضمن فلسفة ركوب الموجة وعرض الخدمات كشرطي حاكم للمنطقة لا يستغنى عنه، وقد حررت هذا المصطلح نظرا لان الواقع السياسي والحربي الحالي قد تخطى قيم الحرب الباردة ومعاييرها المخابراتية ومخارجها المعتدلة بعض الشيئ الى واقع اكثر سخونة وهمجية، وأضحت معايير التوحش سمة غالبه في هذا الصراع المتقد، ولكنه لم يرتقي حتى الان للحرب النظامية العالمية، بل استخدمت المفاعيل الدولية ادوات مسلحة مختلفة وبمسميات متعددة لتبرر سياسة الوصول والتواجد الحربي من جهة والسياسي والاقتصادي من جهة اخرى، ويطفي على السطح منظر التنظيمات المسلحة الهمجية بوشاحها الاسلامي السني والشيعي كأنه صراع طائفي مذهبي الا انه بالحقيقة سوق تجاري للحرب والأمن من جهة وأدوات تحقق متطلبات الحرب الدافئة التي لا تنطبق عليها القواعد الامرة في القانون الدولي للحرب.
الحرب المركبة
يشهد العالم في بقع مختلفة وخصوصا العالم العربي ملامح واضحة للحرب المركبة بعناصرها ومفاعيلها الاساسية ومضافا اليها مفاعيل نظامية كالقوة الجوية والصواريخ والمتفجرات المتطورة والأسلحة الكيماوية اضافة الى الجهد ألاستخباري النوعي وحرب السايبر- المعلومات وجميعها مسخرة لإنعاش هذه الحروب والنزاعات، ومنذ مطلع العقد الحالي جرى التحول بشكل واضح من الحرب النظامية في مجابهة الحرب الغير متوازية (الغير نظامية) الى الحرب المركبة التي اسلفت ذكرها، وبلا شك هذه الحرب اعتمدت انتخاب مسرحا للحرب وتجسد في مسرحي العراق وسوريا وتمدد الى ليبيا ومصر واليمن، وجرى تهيئة بيئة حربية لا متماثلة ومناخ متشدد متوحش ليصنع بيئة الحرب الدافئة المقبلة، وبكل الاحوال ان سوق الحرب والأمن هو المستهدف الاساسي لهذه البيئة، خصوصا بعد خصخصة الحرب والأمن اذا ماخذنا بنظر الاعتبار ان هناك اكثر منت 1500 شركة امنيه بالعالم، وسوق الحرب المركبة يستهلك الامور التالية : السلاح بكافة انواعه، العتاد بكافة انواعه، المتفجرات، اجهزة الاتصالات، المستشارين، المتطوعين المتقاعدين من الشركات الامنية الخاصة كمدربين، الدروع الواقية، الروبتات الحديثة، الكلاب البوليسية، الحواسيب وشاشات العرض وكاميرات المراقبة، السيارات المصفحة، السيارات الحديثة الباهضة الثمن، مراكز الدراسات، الصناعة الاعلامية بكافة عناصرها، ناهيك عن ترويج صناعة الافكار المتطرفة والهدامة التي تعد المغذي الاساسي للحرب، وكما نعلم ان الاختلاف عن الحرب الباردة يكم في عدم استخدام هذه العناصر لأنها حرب دبلوماسية مخابراتية كانت تعتمد الانقلابات والخطف والاغتيال وحمى التسلح والعزل والحصار الاقتصادي، وكذلك الحرب الساخنة هي الاخرى حرب الجيوش والدول والحدود السياسية وتلك اثبتت فشلها في العقد السابق، وهنا عندما تشتبك المصالح التجارية للشركات المتعددة الجنسيات والطموحات التوسعية على حساب القانون الدولي والنسق الدولي، يبقى خيار الحرب مربحا وقائما مهما كانت التكلفة البشرية ومهما ارتفع مؤشر الخطر.
يصعب طرح توصيات او حلول للواقع السياسي والحربي الحالي، وذلك لاختلاف المصالح والإرادات والتوجهات والاستراتيجيات العامة والتخصصية، وبنفس الوقت لأنه خارج صلاحية الكاتب، وبالرغم من ارتفاع وتيرة الحرب على الارهاب وبروز ملامح الحرب المركبة في العراق وسوريا بشكل واضح وبإدارة دولية تمخض عنها تحالف الخمسين دولة دون حلول سياسية او تغيير سياسي في كلا البلدين، فان قانون الحرب المركبة هو السائد، والتوحش والهمجية اصبحت سلوك مقبول للمجتمع الدولي لهذا الطرف ومرفوض للطرف الاخر ضمن سياق شد الاطراف لإبقاء مرجل الحرب المركبة مستعرا، بعد ان تلاشت الدول وسيادتها وعناصرها امام ادوات الحرب المركبة التي استباحت الحدود السياسية ونسفت الدولة وعناصرها وهدمت المجتمع ومزقته الى مذاهب وطوائف متحاربة، يقودها امراء الحرب وشيوخها، وقد لفت نظري مقولة “الفوضى الخلاقة ” التي تعد الكلمة السحرية لبدء عالم الحرب الدافئة بحروبها النظامية والمركبة والغير متوازية، في عالم باحث عن الحرب بكافة اشكالها بالرغم انه يتغنى بالسلام والديمقراطية.
*مفكر عربي من العراق