ضعف الأمة من ضعف لغتها، وقوتها في قوة لغتها، وإذا أردت إضعاف أمة استهدف لغتها، فأقصر الطرق إلى أضعاف كيان الأمة باستهداف لسانها بالتهميش والخذلان والاستهانة، هجر اللغة من لدن أهلها وانزياح ألسنتهم عنها لغيرها مهما كانت الذرائع، خطر فادح يحيق بمصير الأمة كلها ويهدد هويتها ووجودها. فاللغة تمثل وجه الأمة الحضاري، ورصيدها الثقافي والفني بما ينطوي عليه أدبها من فنون الشعر والنثر والحكم والأمثال، فكل ما ينطوي عليه حصاد الإرث الثقافي والعقائدي وثروتنا من القيم الاجتماعية والعادات والتقاليد من نتاج اللسان والقلم ويودع في ذمة اللغة.
لقد كانت أمتنا العربية قوية بلغتها وثقافتها وفكرها ويشهد لها العالم بما قدمت للبشرية من إنجازات علمية هائلة يوم كانت أوروبا وأمريكا تغطان في سبات عميق من الجهل ودياجير من التخلف. وإذا شكك اليوم مشكك بقصور لغتنا في مضمار العلم والتكنولوجيا الحديثة فهو قصور في مستخدمي اللغة وليس في لغة أثبتت تأريخيا أنها على رأس لغات العالم قابلية للتطور وخدمة العلم والعلماء.
للغة دور أساسي في ترصين وجود الأمة وتميزها عن غيرها، فهي تفرض على المتحدث نمطا خاصا من العيش يجسد حصيلة الموروث الفكري والتاريخي والاجتماعي لمكتسباتها الحضارية من الماضي حتى الحاضر في صيرورة تنسجم مع طبيعتها في الرؤية والحركة والفاعلية، ويتجلى بنمط العيش من المأكل والملبس والمسكن والفلكلور، وأساليب التعامل والتصرف والأخلاق، والأمة التي لا تحافظ على لغتها لا تحافظ على تاريخها وأمجادها التي يفترض أن تكتب بلغتها الفصحى، فضياع اللغة ضياع للحضارة وفقدان للصلة بالأصول والجذور، فاللغة هي العروة الوثقى التي تربط وتوثق مسلمي العالم بأشقائهم العرب وإخوتهم في الدين ممن يتبركون بلغة القرآن وإن شق عليهم الوصل وشط بهم المزار وتباعدت المسافات، فاللغة تجسد العلاقة التكاملية بين الماضي والحاضر. وهي المعادل الحقيقي للحضارة والثقافة والعقيدة والفكر والانتماء.
استهداف اللغة استهداف للفكر، فالإنسان في مجتمعه وبين أهله وذويه يتخيل ويفكر بوحي من لغته القومية ويتكلم بوحي من أفكارها، والكائن الحي الذي لا ينطق لا يفكر ولا يعقل أو يتذكر، ومن كانت لغته سليمة كان تفكيره سليما، ومن كانت لغته ضعيفة كان تفكيره ضعيفا، ونحن نفكر لأننا نتكلم ومن يستهدف اللغة بقصد إضعافها يسعى لإيقاف مسيرة الأمة، فاللغة هي النمير المتجدد الذي يسعى بالأمة في سلالم الرقي والتقدم، وهي الرحم الذي ينجب كل جديد ويولد الإبداع والابتكار ويبقي الوشائج بين أبناء الأمة قائمة، فتحصين الأمة يبدأ من تحصين لغتها، ولا شك نحن بهذا نشير إلى لغتنا العربية، فإرادة التغيير العربية إن شئنا لها أن تكون ينبغي أن تبدأ من إرادة الشعوب العربية باستعادة قوة لغتهم العربية وأمجادها، والوقوف بوجه معاول الهدم المغرضة التي تستهدف الكيان العربي من خلال إضعاف اللغة العربية أهم عوامل وحدة ألأمة العقدية والقومية، وأصلب قلاع مواجهة الحروب النفسية والطائفية والعنصرية قبل الحروب العسكرية .
إن الاهتمام والاعتزاز باللغة هو المعيار الأساس في تقييم صلابة الانتماء إلى الأمة، وعلى العكس الاستهانة باللغة دليل ضعف وتراجع، بدأ بشيوع اللافتات التي تكتب باللغات الأجنبية على واجهات المؤسسات والمباني إلى تداول الألفاظ غير العربية ضمن اللغة المحكية، في أحاديثنا وتصدم أسماعنا داخل الشوارع والأحياء وفي الجامعات والمدارس وداخل المنازل، فأي ضعف واستهانة باللغة؟ وحملة الهجوم على الهوية العربية والإسلامية لا يقف عند حد، وقد أصبحت المؤسسات الخاصة والرسمية وشبه الرسمية تتخذ من اللغة الأجنبية وسيلة تواصل في مكاتباتها، فماذا تبقى للغتنا الجميلة من رصيد اعتباري؟ ومهما قيل عن استحالة انقراض العربية لارتباطها بالقرأن الكريم الذي يشكّل جسراً للتواصل بين العرب المسلمين الذين بات تمد دهم يغزو العمق الأوربي والأمريكي فضلا عن أسيا وأفريقيا، فان إضعاف اللغة وإرباك إشعاعها يحول دون تسارع هذا المد، ولذلك بات على رأس مخططات الساعين لضرب وحدة العرب، إضعاف لغتهم الحية كمقوم من مقومات نهضتهم.
لغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن، ولسان الجدود، نبراس الشعر والأدب وعنوان الحضارة، ومداد التاريخ والمعرفة، لا تستحق أن تضام من أهلها في ديار العروبة والإسلام، ويشيح جيل الأحفاد عنها، ويديرون لها ظهورهم، هذه اللغة التي حفظت لهم عقيدتهم ومآثرهم، وتقابل اليوم منهم بالعقوق والجحود، وأصبح حتى الحديث عنها في خارج السياق بحجة قصورها وعجزها عن مسايرة العلم والتكنولوجيا الحديثة، وفي الوقت الذي تحدد فيهكل من الأمم المتحدة ومنظمة “الاليكسو” يوما عالميا للغة العربية، تقام فيهما فعاليات متواضعة لا تأبه الدول العربية بالمناسبتين كأن اللغة ليست لغتنا ولا تراثها معادلا لتاريخنا وشخصيتنا ووجودنا! فهل من يستيقظ وتأخذه الحمية وينتصر لعقيدته وأمته؟
“البلاد” البحرينية