بعد المخاضات السياسية والانتخابيّة العسيرة التي شهدتها تونس في موفى 2014، فإنّ التنمية تعدّ الإشكالية الرئيسية في مهد الربيع العربي. هي إشكالية وليست مشكلة لماذا؟ لأنّ المشكلة أبسط من الإشكالية التي هي فلسفية عميقة فيما المشكلة عابرة. إشكالية التنمية في تونس معقدة، إذ أنها لا تتطلب حكومة ذات أغلبية، بقدر ما تحتاج إلى حكومة واعية محيطة بطبيعة الإشكالية وبحوافها وروافدها.
إشكالية التنمية معقدة لجملة من العوامل. أوّلها أنّ التنمية هي باب من أبواب العدالة الاجتماعية المهدورة في تونس. وثانيها أنّ فقراء الشعب التونسي ونخبه التقدمية على وعي بهذه الإشكالية ولهذا ثاروا منذ 2008 في الحوض المنجمي. وثالثها أنّ هناك مفارقة عجيبة تحيط بإشكالية التنمية وهي أنّ في تونس ثروة بشرية رهيبة يمكن أن تحقق ثروة مادية ضخمة وتنقل تونس من حال إلى حال. ورابعها أنّ العقل التونسي المجتهد يتلقفه الخارج ويهمشه الداخل ويهدر جهوده الفساد.
ومهما كان حجم اللغط الدائر حول الحكومة التونسيّة الأولى في الجمهورية الثانية، فإنّ التونسيّين سينسون بسرعة حكاية تشكيلها وما شابها من غموض وتشويق. فهم لاهون عنها بمشغلهم الرئيسي الذي يملأ أيامهم ولياليهم المتمثّل في مشكلة التنمية ومعيقاتها. فالتنمية هي أهم موقدات الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010. أمّا معيقاتها فهي ما عجزت عن حلّها الحكومات الستّ التي تعاقبت على تونس بعد 14 يناير 2011، وهي معيقات متعدّدة؛ فمنها ما هو بنيويّ، ومنها ما هو آني عابر، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو أيديولوجي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو عقاري.
من أين ستبدأ الحكومة الأولى في الجمهورية الثانية معالجة معيقات التنمية في تونس؟ السؤال منهجي بالأساس وليس كرونولوجيا المقصود به الحاليّة الحاملة على الوعي بتعقّد المشكلة وليس الظرفية المكانية السطحية، بمعنى ما هي الخيارات الكبرى للحكومة القادمة؟ ما هي أولويّاتها في التعاطي مع الملفات الكبرى؟ كيف ستتمكّن من التوفيق بين المتناقضات؟ من معها حقيقة ومن عليها خفية؟ من سيصمد ومن سيهرب في أوّل الطريق أو في منتصفها؟
الرهان الأوّل يكمن في تحديد مفهوم التنمية. فالكثيرون يختزلونه في بعده الرأسمالي المعاصر، إذ يعتقدون أنّ التنمية تتلخص في جلب الاستثمارات الخارجيّة بمعنى تحفيز رأس المال الأجنبي على الانتصاب في تونس، وهو ما يتطلب تسهيلات جبائية وتغاض عن إخلالات كثيرة. وهم في ذلك لا يخرجون عن فهم زين العابدين بن علي ونظامه للتنمية، فيما مفهوم عميق لا يفلت منه أي مجال ولا قطاع.
والحقيقة أنّ كلّ القطاعات تحتاج التنمية. فقطاع الأمن مثلا يشكّل مشكلة كبيرة في تونس. فهو يعاني من مشاكل بنيوية يعسر حلها في المدى القريب وحتى المتوسط مهما كانت النوايا. هناك مشكلة التشريعات والقوانين لاسيما قانون الإرهاب. وهناك أيضا غياب آليات الرقابة والمحاسبة لمشاكل الفساد الاختراقات الأمنية داخل القطاع. وهناك مشكلة التأجير الهش والمنظومة الضعيفة قياسا بحجم التحديات وخطورتها. وإضافة إلى أرشيف البوليس السياسي الضخم هناك أرشيف الأمن الموازي الذي أورثته الترويكا لحكومة الجمهورية الثانية. كلّ هذا مع مشكلة التأجير الهش وسهولة الانجرار وراء الرشوة والفساد. وهناك مشكلة النقابات الأمنية المتناسلة والأمن الجمهوري الذي مازال مطلبا طوباويا بعد الثورة.
الداخلية التونسية حققت نجاحات ضد الإرهاب وخاصة العمليات الاستباقية الدالة على اليقظة واستعادة الكفاءة الاستعلاماتية، ولكن المعيقات أكبر من النجاحات رغم ما يبديه الأمنيون من شجاعة وعزم. لكن الإرهاب التكفيري والتهريبي نجحا في تسديد ضربات موجعة للأمنيين وعائلاتهم. الأمن والتنمية متجادلان فلا تنمية بلا أمن. ولا أمن جمهوريا بلا كرامة وعيش وحقوق.
التنمية العسكرية مشكلة معقدة هي الأخرى. فالجيش التونسي كان مغيبا عن الرأي العام طيلة حكم بن علي. فقد تدخل في أحداث 1978 و1984 في عهد الحبيب بورقيبة وانضمّ للنظام وساهم بشكل حاسم في قمع المظاهرات الشعبية ذات الخلفية الاجتماعية. بعد ذلك، اكتفى بن علي بأجهزة البوليس وأبعد الجيش عن الشأن العام وحصر وجوده في الثكنات وفي المشاركات الدولية تحت غطاء الأمم المتحدة. ولكن البوليس هرب أثناء الثورة. والجيش هو من حمى تونس ومؤسساتها. ولم ينته دوره بعد 14 يناير 2011. فمن حفظ النظام العام وحماية الحدود، مرّ الجيش التونسي إلى معالجة أزمة اللاجئين أثناء الثورة الليبية، ثم وجد نفسه عالقا في مواجهة الإرهاب التكفيري مع ما يعانيه من نقص لوجستي وفقر في المعدات.
قطاع الاستثمار يعاني مشكلتين أساسيتين؛ الأولى لوجستية تتمثل في تعثر ربط جهات تونس بشبكة متطورة من الطرقات والسكك الحديدية والمطارات، والثانية عقارية محصل أمرها تراكم مشكلة أملاك الدولة وتداخلها مع العقارات الصغرى للمواطنين، وهو ما عطل مسألة التشغيل التعاوني وما عقّد مسألة تحكم الدولة في عقاراتها لاسيما من الأراضي الفلاحية الزراعية والبحرية. فكثير من المواطنين يتصرفون في عقارات دون سندات ملكية، هذا فضلا عن أنّ الدولة التونسية لا تملك سندات ملكية لعقارات تونسية داخل تونس مثل هنشير النفيضة.
أمّا قطاع الصناعة فإنّه قطاع المتناقضات إذ أنّ تونس تحتكم على ثروة بشرية هائلة لاسيما من السواعد العاملة ومن الكفاءات العلمية. أمّا القطاع فإنّه يعاني الغرق في القطاعات الكلاسيكيّة والعجز عن المنافسة في الأسواق. وهو يكاد يكون قطاعا عاجزا لولا الرفد الذي يجده من القطاع الفلاحي في مستوى التزويد بالمواد الأساسية للتحويل.
تبقى الفلاحة التونسية القطاع الأكثر ظلما على الإطلاق. فالمياه العذبة والمناخ المعتدل والأراضي الخصبة توفّر منتوجات فلاحية ثرية ومتنوعة. ولكن الحكومات التونسية المتعاقبة عجزت عن حسن توظيف هذه الورقة المشبعة للبطون. فلم تتمكن من تسويق منتوجاتها بما يرضي المزارعين ويملأ خزينة الدولة. وبقيت طبقة المزارعين وعمال القطاع الفلاحي هم من يدفعون الضريبة العالية باعتبارهم من يتحمل فشل الحكومات السابقة في المواءمة بين غزارة الإنتاج، وحسن التسويق خارجيا وصرامة التحكم في السوق المحلية.
أمّا قطاع التربية فهو القطاع الأكبر على الإطلاق في تونس من حيث التشغيلية ومن حيث عدد المؤسسات التربوية ومن حيث الحجم الضخم للموازنة المالية. هذا القطاع على أهميته وانشغال كل أطياف الشعب التونسي به، هو قطاع مهشّم لم تفلح معه تمويهات ما قبل 14 يناير 2011، ولا ترقيعات ما بعده.
فعلى الحكومة القادمة أن تحذر من خروج الشعب التونسي من أجل معاركه الثلاث الكبرى؛ معركة العدالة الانتقالية، ثمّ معركة العدالة الاجتماعية، فمعركة العدالة الجبائية.
*كاتب وباحث سياسي تونسي/”العرب”