ليس صحيحاً أن انتشار ظاهرة الإرهاب قد ارتبطت بعودة ما عرف ب “العرب الأفغان” إلى بلدانهم، بعد انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان. فقد شهدت أرض الكنانة، منذ النصف الأخير من سبعينات القرن المنصرم، تشكّل تنظيمات إرهابية، تحت مسميات مختلفة، أبرزها “جماعة الهجرة والتكفير”. وكان اغتيال الرئيس أنور السادات، في أوائل الثمانينات هو من أبرز العمليات الإرهابية التي أقدمت عليها تلك المجموعات.
لكن بروز الإرهاب، بطابعه السلفي المتزمت، المتخفي براية الإسلام، كظاهرة عالمية ارتبط بهزيمة السوفييت، بعد منازلات دموية قاسية. وكانت حوادث 11 سبتمبر عام 2001 هي أعلى ما وصلته العمليات الإرهابية، عالمياً، قبل انبثاق ما أصبح متعارفاً عليه بالربيع العربي.
خلال الأيام الأخيرة، تصاعدت الأعمال الإرهابية في الوطن العربي بشكل غير مسبوق، حاصدة العشرات من القتلى، وشملت بلداناً عدة، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر ولبنان. وتناقلت الأنباء أيضاً نبأ حدوث هجوم إرهابي على الحدود السعودية الشمالية، بمنطقة عرعر.
ومن جهة أخرى، ذكرت وكالات الأنباء، أن الصراعات المسلحة أخذت تحتدم بين الميليشيات الإرهابية في سوريا. بين “داعش” و”جبهة النصرة”، في عدد من المحافظات السورية، وصراع مسلح آخر يقوده زهران علوش، قائد “جيش الإسلام”، في مواجهة “الجيش الحر” و”جيش الأمة”، في الغوطة الشرقية.
الخبر الأبرز هذا الأسبوع، هو الأعمال الإرهابية التي حدثت في العاصمة الفرنسية باريس، وقد لقيت استنكاراً عالمياً واسعاً. وشهدت باريس تظاهرة ضخمة بدعوة من الرئيس الفرنسي، شارك فيها زعماء من دول عدة، إضافة إلى الفعاليات السياسية والاجتماعية في البلاد.
هناك تحركات عربية ودولية، لإنهاء ظاهرة الإرهاب، إما عبر الحرب أو التفاوض مع المعارضات المسلحة كما هو الحال، في المبادرات التي تطرح في ليبيا لتحقيق المصالحة بين مختلف الأطراف المتناحرة على السلطة. وأحاديث عن وساطة يقودها رئيس الحكومة العراقية السابق، إياد علاوي، بين تنظيم الطريقة النقشبندية والحكومة العراقية. ووسط سعي من الحكومتين الروسية والمصرية، لإجراء مفاوضات بين الحكومة السورية، وأطراف المعارضة، للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، التي مضى عليها، قرابة أربع سنوات، وتسببت في مصرع ما ينوف على الأربعمئة ألف قتيل، عدا الجرحى والمشردين، وكلف هائلة في الأموال والممتلكات.
هناك ضبابية في التعامل العربي والدولي مع جرائم الإرهاب، ويعود ذلك لغياب التقييم الدقيق تجاه ممارساتها، واتخاذ مواقف تتسم بازدواجية المعايير تجاه سلوكها. فهي حركات جهادية مناهضة للاستبداد، حين يكون موقفنا مناهضاً للنظام الذي تحاربه قوى الإرهاب. وهي حركات إرهابية بامتياز، حين تحارب نظماً سياسية صديقة، مع أن تلك المجموعات تسلك ذات الأساليب، والمواقف في كل الحالات.
فجميع الحركات الإرهابية، التي برزت بعد ما عرف بالربيع العربي، تتصف بالتعصب والضيق بالرأي الآخر، وتكفر المجتمع، وتعمل على تفتيته وإلغاء الهوية الوطنية. لكن المصالح الضيقة وضبابية الرؤية، هي التي تجعل البعض يميز بين هذا الفريق الإرهابي أو ذاك.
رفع السلاح في وجه الدولة، أياً يكن الموقف السياسي منها، من شأنه أن يسهم في شيوع الفوضى، وتهديد أعراض الناس وأرواحهم وممتلكاتهم. وينبغي في هذا السياق التمييز بين الكفاح الوطني ضد المحتل، الذي هو في النتيجة توجه نحو بناء المستقبل، وممارسة تقرها شرعة الأمم المتحدة لحق تقرير المصير، وبين استخدام السلاح ضد الدولة. ففي الأولى دفاع عن النفس ويحظى في الأغلب بإجماع وطني، فيصبح الشعب بأسره حاضنة اجتماعية لهذا الكفاح.
فالدولة بحسب رؤية علماء السياسة والاجتماع، هي أرقى ما وصل إليه التطور الإنساني، من تنظيم وإدارة للعلاقة بين أفراد المجتمع الواحد، وأنها والحالة هذه، فوق المجتمع، وقراراتها ملزمة حتى وإن كانت موضع جدل وخلاف، والدولة في النهاية هي الضامن لأمن المجتمع واستقراره.
انهيار الدولة يعني العودة إلى صيغة المجتمعات البدائية، وتهديد الأمن، وتعطيل مصالح الناس. وهو أمر لا يخدم نهوض المجتمع، ولا يسهم في لحاقنا بالعصر الكوني الذي نعيش فيه.
مر “الربيع العربي”، وبشكل رئيسي، ببلدان خمسة، هي تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، في شكل حركات احتجاجية، سلمية في بداياتها، انتهت في تونس ومصر بتنحي قمة الهرم، وعبور مرحلة انتقالية. تكللت بالنجاح في تونس، وتعثرت في مصر، لتشهد تحولاً آخر، في 30 يونيو 2013. واتجهت مصر مجدداً نحو استكمال مرحلتها الانتقالية، ولم يتبق سوى إجراء الانتخابات النيابية، المقررة في شهر مارس/آذار المقبل.
في كل الحالات التي أشرنا إليها، نشطت جماعة الإخوان المسلمين، واستثمرت حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي، فقفزت للسلطة، باستخدام الوسائل السلمية وغير السلمية. لكن الدولة العميقة في مصر، وقفت بالمرصاد لتطلعات الجماعة، ولم تمكنها من تحقيق أهدافها.
تسلّم الجيش المصري، قيادة المرحلة الانتقالية، وحال دون انهيار الدولة. وبالمثل وقف الأمن التونسي، وشكّل سداً منيعاً حال دون انهيار الدولة. ولكن ذلك لم يتم من غير كلف قدمها البلدان، في مواجهة التطرف والإرهاب، المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين.
في الحالة الليبية، استخدم العنف من قبل السلطة الحاكمة الممثلة للدولة، ومن قبل الثائرين أيضاً، الذين تشكّلت بعض قيادتهم من جماعات عرفت بعلاقتها بالقاعدة. وحدث أن استراتيجية الدول الكبرى، رأت مصلحة لها في إزاحة النظام القائم فتدخلت لإطاحته، وانحازت للتنظيمات الليبية المتطرفة، والنتيجة هو انهيار الدولة الليبية وغرق البلاد في بحور من الفوضى.
في سوريا واليمن، صمدت الدولة، ولكن دورها بات ضعيفاً، وجرى تدوير للقوى التي تصدرت ما عرف بالثورة السورية، حيث لم تعد الأهداف التي طرحتها الحركة الاحتجاجية في البلدين الشقيقين تطرح الآن مطلقاً، في أدبيات عناصر الإرهاب، التي فاقت في جرائمها وأفعالها الشنيعة، ما يمكن لأي عقل تصوره.
عسكرة الانتفاضات العربية، أدت إلى شيوع ظواهر الإرهاب، بالشكل الحاد الذي بلغ عليه الآن. وهزيمة الإرهاب تقتضي التمييز بين الثورة والإرهاب، وإعادة الاعتبار للدولة، باعتبارها الجامع والضامن لأمن المجتمع ومستقبله واستقراره.
* كاتب عربي/”الخليج” الاماراتية