تحول الجنوب الليبي إلى وكر للإرهابيين وقاعدة خلفية لهم، وحسب التقارير الاستخباراتية والمعلوماتية التي تناقلتها الأوساط المطلعة فإن هناك نقاطا ترابط بين “داعش” ومجموعات كانت مرتبطة حتى الآن بـ”القاعدة” في منطقة الساحل والصحراء، وخصوصاً في “درنة” وليبيا حيث يحاول “داعش” الإمساك بزمام الأمور، وهي المنطقة التي يوجد فيها “بلمختار”، أحد أبرز قياديي “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي وأيضاً “إياد آغ غالي”، زعيم جماعة “أنصار الدين”. والمشكلة الكبرى أن هذه الجماعات في تطور مستمر ولها علاقة بما يقع في ليبيا التي أصبحت دولة ضعيفة جدا، حيث هناك غموض سياسي خطير ويتنازع الشرعية السياسية في البلدة برلمانان وحكومتان في بلاد تسبح في غيابات ما يشبه الحرب الأهلية. كما أن المجموعة الدولية لا تكترث كثيراً لما يمكن أن يتمخض عليه هذا التراكم الإرهابي في هذه المنطقة، تماماً كما لم تكترث في البداية إلى تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني في العراق بعد سقوط صدام حيث تجيشت الغرائز العصبوية (الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية)، وتشكلت مؤسسات الدولة بناء على نظام الاحتصاص (المحاصصة) الطائفي والعرقي. ومن جوف البنية الطائفية والمذهبية وغياب القشرة الحامية للدولة، نمت الفيروسات الجهادية التكفيرية كـ”داعش” وغيرها وانتقل نطاقها بسرعة البرق، سخر للقضاء عليها أزيد من أربعين دولة في تحالف دولي لم يسبق له مثيل حتى في الحربين العالميتين، والأدهى من ذلك أن هذا التحالف لم يستطع لحد الساعة القضاء عليها، وهي في زيادة مستمرة. وكأن التاريخ يعيد نفسه دون أي مكترث. وأخاف أن يخرج من رحم الجنوب الليبي غدا ما هو أهول وأخطر. وأتعجب لماذا لا تستفيد القوى العالمية من تجارب مناطق مماثلة وبيئات متشابهة مولدة لنفس الإرهاب، لتستبق الأحداث وتتدخل قبل فوات الأوان.
القذافي، ترك بلده مبتوراً من دون مؤسسات، ومن دون مجتمع سياسي قادر على تجنب النزيف الذي يعاني منه، وقابل لكي يشتبك اشتباكاً نظرياً تاريخياً ناجحاً مع معضلات الدولة والمجتمع ليساهم بها في ترشيد ممارسة عملية التغيير والتقدم. وهذا خلافاً لدولة تونس حيث إنّ الفاعلين المجتمعيين والسياسيين لم يهدروا دم الدولة الحديثة، بل استنبطوا فكرتها ووطنوها في نسيجهم الثقافي والنفسي؛ فطبيعة الدولة والإرث المؤسساتي والمجتمعي والوعي الثقافي وغيرها من العوامل المتواجدة في تونس والمفقودة للأسف في ليبيا، مكنت من قبول مبدأ الاختلاف وإقراره رويداً رويداً في عقد سياسي يصادق على حق الرأي والانتماء، وعلى التعددية السياسية.
خلال اجتماعها في 19 ديسمبر في نواكشوط، دعت خمس دول في منطقة الساحل (تشاد، مالي، النيجر، موريتانيا، بوركينا فاسو) إلى تدخل دولي فوري في ليبيا. والدولة الوحيدة التي بدأت تتحرك وإنْ على استحياء هي فرنسا مخافة أن يصل خطر هذا الإرهاب إلى حدودها.
فرنسا تحاول اليوم كما فعلت في عهد الثنائيين نيكولا ساركوزي-ألان جوبيه، تسريع التأثير على مجريات الأحداث المقبلة؛ كما تحول إنهاء بناء القاعدة العسكرية “ماداما” في الربيع المقبل، وهي تقع على بعد 100 كلم جنوب الحدود الليبية- النيجيرية، كانت تشغلها فرنسا إبان الاستعمار لمراقبة المنافسين الاستعماريين في تلك الفترة: بريطانيا وإيطاليا. كما أن هذه القاعدة تشكل جزءاً من عملية “بركان” الفرنسية التي صممت لإعادة انتشار القوات الفرنسية الموجودة في بلدان الساحل وفي الشريط الممتد من موريتانيا وحتى دارفور. وللقوات الفرنسية ثلاثة آلاف جندي ينتشرون في قواعد في تشاد (مقر القيادة) والنيجر ومالي وبوركينا فاسو (القوات الخاصة) مدعومة بمائتي مصفحة والعشرات من المروحيات والطائرات القتالية والاستطلاعية دون نسيان القوات الفرنسية المرابطة في السنغال وساحل العاج والغابون. قضى وزير الدفاع الفرنسي عطلة رأس السنة في القواعد العسكرية الفرنسية المتواجدة في المنطقة لإبراز مدى اهتمام فرنسا وقلقها من الوضع في جنوب ليبيا ولإرسال إشارة سياسية مفادها بأن باريس جاهزة لتحمل المسؤولية كما وقع في مالي سنة 2013 وأفريقيا الوسطى في 2014.. ولكن الوضع في ليبيا مختلف ومتشعب وخطير، فلا يكفي الحديث عن جنوب ليبيا بمعزل عن الأوضاع السياسية في ليبيا، ولا يمكن الحديث عن تنامي الإرهابيين هناك دون الحديث عن تثبيت السلم الاجتماعي والسياسي في جميع أرجاء ليبيا، فالأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، وإلا ولدت أخرى أهول وأخطر إن بقيت الأسباب التكوينية والبنيوية دون علاج.
*رئيس المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية/”الاتحاد” الاماراتية