خلق الله عز وجل الإنسان لعبادته وأنعم عليه بالتكريم والتفضيل وعهد إليه بالأمانة والتكليف ومتعه بالإرادة والحرية وحمله المسؤولية والاستخلاف وعرضه للابتلاء والاختبار {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} (الإنسان)، بل جعل الابتلاء في إحسان العمل حكمة في الخلق {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} (الملك2-1). ومن أجل ذلك نبهنا ربنا عز وجل إلى زينة الأرض ودورها في حياتنا {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوكم أيكم أحسن عملا} (الكهف7).
والابتلاء سنة عامة جارية في حياة الأفراد والجماعات، تنبني على حرية الاختيار في الاستجابة للأحداث مهما كانت صغيرة أو كبيرة.
فالحياة كلها سلسلة متصلة من الامتحانات والاختبارات، إذ ينبغي للإنسان أن يختار دائما أفضل البدائل التي تقربه إلى الله ويستجيب للأحداث بما يرضي الله عز وجل وإذا لم ينجح في ذلك يصبح الابتلاء فتنة تبعده عن الله.
والابتلاء قد يكون بالسراء وقد يحدث عن ضراء {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} (الأنبياء35) {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} (الأعراف 168(.
كما يكون فرديا {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} (الحج 11) ويكون كذلك جماعيا {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها} (الحج 48). والله سبحانه وتعالى أنزل الأرزاق المعنوية والمادية بقدر وجعلها متفاوتة بين الناس ليبتليهم في إقامة العدل والتزام الشرع في التوزيع {ولو شاء الله لجعلكم أم واحدة ولكن يبلوكم فيما آتاكم} (المائدة48) {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} (الأنعام 165). وجعل بيان وحيه وتنفيذ شرعه وإشاعة مراده عز وجل من العدل منوطا بالجهود البشرية أولا وذلك ابتلاء لهم {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} (محمد 5).
والابتلاء يؤدي إلى التمحيص فيزكو الطيب ويسقط الخبيث {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} (محمد 31).
{أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت 2)، وهو كذلك أداة للتصحيح والمراجعة، قال الله تعالى في حق بني إسرائيل {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} (الأعراف168).
والابتلاء قد يكون نتيجة كفر فيسمى إملاء واستدراجا {ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} (آل عمران 178)، وقد ينتج عن فسق ومعصية كما قص ذلك القرآن الكريم عن بعض بني إسرائيل {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تاتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تاتيهم. كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} (الأعراف 163). وهذا النوع من الابتلاء يواجه بالتوبة إلى الله واستغفاره وتجديد العزم على طاعته.
وقد يكون الابتلاء نتيجة جهل بالسنن الكونية والشرعية أو خطأ في الفهم والتقدير، ويثبت الأجر على حسب النية ويقع الابتلاء عقابا عاجلا كما وقع للمسلمين في غزوة أحد، فإنهم لم ينتصروا ولكن قتلى المسلمين من الشهداء، وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم» قالت: قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ويبعثون على نياتهم» (رواه البخاري في كتاب البيوع).
وهكذا يعاقبون في الدنيا جماعة على عملهم ويجازون في الآخرة فرادى عن نياتهم، وهذا النوع من الابتلاء يستدعي مراجعة العلم بالدين وبالواقع حتى يستقيم التطبيق بإذن الله.
ونوع ثالث من الابتلاء هو من مستلزمات حياة الإنسان في هذه الدنيا التي هي دار عمل واختبار، ويأتي بعد بلوغ الوسع في بذل الجهد والأخذ بالأسباب الغيبية والمادية وهو من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل عليهم السلام والصالحين والمصلحين من بعدهم، وتكون نتيجته تزكية للنفس وتثبيتا للقدم ورسوخا في الطريق ويواجه بالصبر على الأذى والاحتساب لله.
ومن الملاحظ أن عددا من الدعاة كلما حل ابتلاء صنفوه ضمن هذا النوع الثالث وحرموا أنفسهم بسبب ذلك من المراجعة بالتوبة والاستغفار إذا كان من الأسباب الراجحة معصية أو فسوق، كما ينصرفون بذلك تلقائيا عن إعادة النظر في مناهجهم وأساليب عملهم وقد يكون فيها ما يخالف سنن الله في خلقه، والمطلوب إذن عند الابتلاء مراجعة الالتزام بالدين والعلم به وبالواقع الذي ينزل عليه وإلا فالصبر والاحتساب والثبات.
“الإصلاح” (السنة 2 – عدد 24)
الجمعة 19 محرم 1409 الموافق 2 شتنبر 1988