افتتح مجلس نواب الشعب التونسي الأسبوع الماضي أشغاله على بركة الله، ليصبح أوّل مجلس منتخب بحرية وشفافية وتعدّدية، وليكون المجلس القارّ لفترة نيابيّة مدّتها خمس سنوات. ترأس جلسة الافتتاح التي استمرّت عدّة أيّام، علي بن سالم، وهو رجل وطنيّ مناضل، كافح طويلا وكثيرا في سبيل طرد المستعمر ونيل الاستقلال، فلاقى من أجل ذلك كلّ أنواع العقاب من سلطات استعمارية غاشمة. رغم تعسّف السلطات الاستعمارية ضدّ الشعب بأسره، وفي مقدّمته من ناضل وكافح علنا، إلى أن طُرِد المستعمر واستقلت البلاد. لكنّ المؤسف هو أن الحكومة، والسلطة الوطنيّة تصرّفتا مع الكثير من الوطنيين الصّادقين تصرّفا غير لائق، أقلّ ما يقال بشأنه، أنه ظالم متعسّف، لا لعيب أتوه، ولا لجريمة ارتكبوها، بل لمجرّد اختلاف في الآراء.
كان من ضحايا تلك السياسة علي بن سالم الذي ترأس جلسة افتتاح المجلس النيابي الجديد بحكم سنّه، فنال السجن والأشغال الشاقة وأنواعا من التعذيب، لم يجرأ المستعمر على استعمالها، فتحمّل المكافح علي بن سالم كلّ ذلك بصبر وإيمان طوال ما يزيد عن العقد.
أدار رئيس المجلس الجلسة التي انتخب فيها الرّئيس الدّائم فوقع الاختيار على رجل، شغل مناصب وزاريّة مرموقة في الحكومات التي أنزلت شديد العذاب على بن سالم وكثير من رفاقه. لم يحل هذا دون القيام بالواجب، الذي هو في مفهوم أمثال بن سالم، مقدّس محترم. انتخب لنيابة الرّئيس الأولى، مناضل آخر، ذو وجهة وميول مختلفين، لاقى هو أيضا ما لاقى من صروف التعسّف وفقدان الحريّات، وما إلى ذلك من التنكيل، هذا المناضل هو الشيخ عبد الفتاح مورو، صاحب الفصاحة واللباقة المشهورتين.
أمام هذا المشهد، والحدث الذي قد يكون تاريخيّا، عاودني مشهد قريب منه، كان أحد الأسباب في إقدامي على تأليف كتاب نشرته دار سحنون التونسية، عنوانه: “أسبانيا من الدّكتاتوريّة إلى الدّيقراطيّة- أمثولة وقدوة”، قد يستحسن نقل ما كتبته عن ذلك المشهد الغريب، النبيل، عنوان تغلب العقل والمصلحة الجماعيّة، على أية اعتبارات أخرى. لكن المجال لا يسمح بذلك، لذا أقول مختصرا، أنه بينما كانت أسبانيا في خضمّ معترك التحوّل، من نظام سلطوي إلى ملكية دستورية، فاجأنا رجلان، أو قل زعيمان، بما لم نكن ننتظر.
أحدهما مانوال فراغا إيريبارني، وهو أستاذ لامع في القانون الدولي، تولّى وزارات مهمة في حكومات فرانكو، آخرها وزارة الداخلية، مؤسس حزب التحالف الشعبي، الذي أصبح اسمه الحزب الشعبي، وهو الحاكم حاليا في أسبانيا بأغلبية مطلقة، ثمّ هو أحد زعيمين رفضا تأييد إرجاع الشرعية للحزب الشيوعي.
الرّجل الثاني هو سانتياغو كاريّو، الغول المخيف، والشبح المرعب، كما صورته دعاية النظام الدكتاتوري في أذهان العامة طوال أربعة عقود. دخلا علينا في نادي القرن الحادي والعشرين، حديث التكوين أيامها، وبه تُلقى المحاضرات وتعقد اللقاءات، لتحليل وتقييم أحداث السّاعة.
دخل الزعيمان، يدا بيد، وفوق المنصّة قدّم رجل اليمين نظيره بكلمة نزيهة، بليغة، عاقلة، وألقى الشيوعي محاضرته فكانت مثال الاتزان، والتعقّل، والواقعيّة. وكما كتبت في حينه: “انتصر العقل على العاطفة، وفازت الواقعيّة على الخيال، وتغلّب المستقبل على الماضي، فجاءت الحرّيّة ثمرة مجهود جماعيّ، ونصّبت الدّيمقراطية لتشمل بردائها شعبا عانى الكثير فأصبح من حقّه أن يعيش عيشة حرّة كريمة”.
هذا ما تذكرته ودار بخلدي، عند مشاهدة ما جرى في الجلسة الافتتاحية التي عقدها المجلس الشعبي الجديد. هل هذا يعني أنّ تونس ستسير فعلا في هذا الدّرب السويّ النبيل، بالرّغم من أشباح الماضي وصعوبات الحاضر والمستقبل؟ هذا ما يتمناه كلّ تونسيّ وتونسيّة.
لكن، خارج المجلس، أو حتى في دهاليزه، تجري الأمور بما لا يرتاح له بال، وهذا ما يسيطر حقّا على الرّأي العام في تونس، ولا أدلّ عليه من مقال نشر يوم السبت الماضي بالفرنسية، كتبته سيدة تونسية، وما أكثرهنّ اليوم والحمد لله، بودّي لو ترجمته كاملا لما احتواه من صراحة، وتعقّل، وحقيقة، وتنبيه، إذ هو موجه بصريح العبارة لكلّ السياسيّين أو الناشطين في هذا الحقل. تقول الكاتبة (وهي فاتن مكور مزيو) “… إذن، دعوا من فضلكم إرعاب الناخبين المحتملين، فهذا لم يعد يتماشى (والمرحلة). أعدلوا عن التفرقة “اللاشعورية”، فكلنا يعلم أنه لا ولن يعود لتونس اضطهاد ولا هيمنة ولا دكتاتورية، لأنّ ذكاء وتصميم المجتمع المدني مرتفعان علوّا كبيرا، ومستمرّان في الالتزام ضدّ أية محاولة رجوع إلى الوراء. لكن، وبدون شك في المسألة وإنّما لتطمئنّ نفوسنا، أعيدوا علينا تفسير لماذا أخذتم 3 سنوات من نموّنا الاقتصادي والاجتماعي لـ”تُدَسْتروا” الحقوق والحرّيات؟ لماذا تستمرّون بعد كلّ هذا في ملاعبتنا بذلك.
إنّ الدستور موجود، والشفافية سائرة، والمجتمع المدنيّ على حذر أكثر من أيّ وقت مضى، وهو قاس مع كلّ محاولة تُعَدّ.
إذن، فبكلّ صراحة، حتى أطفالنا لا تنطلي عليهم حيلة الخطابات المرعبة، أو الشاتمة تخفيضا لهذا الجانب، أو ترفيعا من قيمة الآخر. اعلموا جيدا أن التونسي اليوم يفرّق جيد التفريق بين النظام السابق الرئاسي البحت، ونتائجه الدكتاتورية، وبين النظام الجديد البرلماني المختلط… إن هذا الشعب الكبير، في مثل هذا البلد الصغير، لم يعد خائفا مما مضى، إنه لا يخشى إلا ما هو دخيل جديد. شعب شجاع كهذا، ذو جذور وحساسية، متسامح وذكيّ، يعرف جيّدا كيف يحاصر الخطر، وكيف يتصرّف للقضاء عليه. الشعب التونسي أطاح بدكتاتورية، ثمّ واصل وقال لا لكلّ محاولة غرس نظام رجعيّ… الشعب التونسي متلهف حقا للديمقراطية والحرية، ولكنه غير أبله حتى يقع في أوضاع ندم محتملة.
إنّ ثقة العالم أجمع مركزة علينا في هذين الأسبوعين، فسنعرف كيف نتقدّم مجتمعين بحبنا لتونس وأطفالنا. سنتحاشى بحكمة تصرفنا الهادئ، واختياراتنا وليدة التفكير الهادئ، كلّ رجعة عنيفة، قاضية يؤسف لها، تعترض طريقنا نحو ساحة الكبار”.
أليس في هذا ما يكفي ليعلم من له غايات أو نوايا غير ما يطمح إليه الشعب وينتظره، أنه لا سبيل إلى تصرفات ماضية، ولا إلى تلاعبات سياسية هدّامة، ولا إلى مستوردات غير سليمة، وأنّ الطريق السويّ هو العمل بإخلاص ووضوح، لمصلحة الوطن والشعب بأسره.
لكن، مجلس النواب هذا يرأسه عضو من نداء تونس، ورئيس الحكومة سيكون فرضا عضوا من نفس الحزب، وهو حق شرعي دستوري، وإذا ما نجح للجلوس على كرسيّ الرئاسة رئيس نفس الحزب، أليس في هذا وحدانية ولّت غير مأسوف عليها، تريد العودة بشكل جديد؟ سؤال مطروح فهل من مجيب؟
*كاتب تونسي ودبلوماسي سابق/”العرب”