أحياناً يزج الكاتب بنفسه في غمار مشكلات صعبة ليس من السهل تناولها أو حل إشكالياتها المعقدة! وينطبق ذلك عليّ حين اخترت هذا الموضوع لكي أدرس مختلف جوانبه، ولعل الأهمية القصوى لتناوله هي التي دفعت بي إلى هذه المغامرة الفكرية!
ولعل أول مشكلة ينبغي أن نثيرها هي: هل الحديث عن العالم العربي اليوم يماثل الحديث عنه قبل ثورات الربيع العربي؟
والإجابة هي لا على سبيل القطع. فمشهد العالم العربي اليوم تتمثل قسماته الرئيسية في انهيار عدة دول هي ليبيا وسورية والعراق واليمن.
غير أن هذه الانهيارات المدوية التي أدت إلى ارتداد هذه الدول إلى مرحلة ما قبل الدولة تختلف أسبابها اختلافات جوهرية بحسب التاريخ السياسي الفريد لكل دولة من ناحية، ووفقاً للظروف التي تعرضت لها بعد هبوب الموجة الثورية الهائلة التي اكتسحت العديد من النظم الشمولية والسلطوية في العالم العربي من ناحية أخرى.
ولنبدأ بالانهيارات الكبرى والتي تعد ليبيا هي النموذج الأمثل لها. فقد قامت الثورة في ليبيا واتخذت مساراً مثيراً يختلف تماماً عن المسار الذي سارت فيه الثورتان التونسية والمصرية. وذلك لأن العدوى الثورية التي أصابت ليبيا والتي دفعت فصائل سياسية إلى الثورة على النظام الشمولي الليبي لم تستطع أن تقتلع الجذور الراسخة لهذا النظام، بحكم أن العقيد القذافي قضى على كل مؤسسات الدولة، وسحق التنظيمات الاجتماعية كافة، وصفّى النخب السياسية أو دفعها دفعاً للهجرة خارج البلاد. ولذلك لجأت هذه القوى الثائرة إلى الاستعانة بالقوى الأجنبية، وفي مقدمها حلف «الناتو» لكي يساعدها على الانتصار على الميليشيات المسلحة الموالية للقذافي. ومن هنا يمكن القول من دون مغالاة أنه كان من الصعب للغاية إسقاط النظام الليبي لولا الدعم العسكري لحلف «الناتو»، والذي لعبت فيه فرنسا بالذات دوراً محورياً. ويشهد على ذلك الكتاب الذي أصدره الكاتب الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي عن «يوميات الحرب الليبية» ويروي فيه بالتفصيل الدور الرئيس الذي لعبته فرنسا والذي قام بالبطولة فيه الرئيس ساركوزي شخصياً، وهذا الكتاب يحتاج من الباحثين العرب إلى تحليل دقيق لمضمونه لأنه «دراسة حالة» نموذجية لخطورة التدخل الأجنبي الغربي في الشؤون الداخلية للدول العربية. ولا ننسى في هذا المقام الإشارة إلى الدور الفعال الذي لعبت دولة قطر في التدخل في ليبيا.
وإذا كانت ليبيا كدولة منهارة أصبحت الآن نهباً لإرهاب الميليشيات المسلحة التي تعددت هوياتها الإيديولوجية، وأدى سلوكها إلى قيام حرب أهلية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فإن لدينا دولة منهارة أخرى هي العراق.
غير أن سبب انهيار الدولة في العراق يعود بداية إلى الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها صدام حسين في إدارة الدولة، والتي بدأت بالحرب التي شنها على إيران واستمرت ثماني سنوات سقط فيها مئات الآلاف من الضحايا، وأهدرت الموارد العراقية، وانتهت بقرار الغزو الأحمق للكويت، والذي دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى تكوين تحالف دولي لهزيمة صدام وإخراجه بالقوة من الكويت. وتبع ذلك حصار العراق الذي استمر سنوات، وانتهى بالغزو العسكري الأميركي الإجرامي للعراق، وإسقاط النظام ومحاكمة صدام حسين والحكم عليه بالإعدام شنقاً. وبدأ انهيار العراق مباشرة بعد الانسحاب الأميركي منه، وتولي الشيعة الحكم، ما أدى إلى تهميش السنّة وإقصائهم تماماً من الحياة السياسية.
أما الدولة المنهارة الثالثة فهي سورية التي واجهت ثورة الربيع فيها بصورة أقرب ما تكون إلى حرب إبادة لفريق من الشعب السوري، استخدمت فيها الطائرات والمدفعية الثقيلة، ما أجبر ملايين السوريين على الهروب من بلادهم واللجوء إلى بلاد عربية أخرى.
وفي غمار هذه الحرب الهمجية استطاع تنظيم «داعش» – الذي أثبت أنه أخطر المنظمات الإرهابية – أن يحتل مساحات شاسعة في سورية ويفرض سيطرته عليها، بل إنه تمدد وشق أراضي العراق واستولى على عدة محافظات، بل غزا الموصل وسيطر على تصدير النفط وأصبح بالتالي – كما ورد في وكالات الأنباء – أغنى تنظيم إرهابي في العالم! وهكذا انهارت الدولة في العراق وأصبح مستقبلها في مهب الريح.
ثم جاءت أحداث اليمن البالغة الغرابة، والتي تمثلت في غزو الحوثيين للعاصمة صنعاء، وسقوط الدولة بالكامل في أيدي الميليشيات المسلحة.
وهكذا أصبحنا في عالم عربي كان مكوناً من دول مستقلة، وتحول اليوم إلى شراذم من الدول المنهارة، ودول أخرى ما زالت متماسكة حقاً ولكنها مهددة تهديداً حقيقياً من قبل الموجات الإرهابية. وفي مقدمها مصر والدول الخليجية والتي فطنت إلى خطورة الإرهاب على أمنها القومي، وضرورة اتخاذ خطوات حاسمة للتعاون الفعال لصد هذه الموجات الإرهابية الهادرة.
ماذا بقي من البلاد التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي؟
لدينا تونس والتي تزعمت الموجة الثورية بحكم أن الثورة قامت فيها أولاً ثم امتدت إلى مصر وليبيا وسورية. وتونس تمثل في الواقع – إذا استخدمنا لغة مناهج البحث – الحالة السلبية Negative case، بمعنى أنها شذت عن الظواهر السياسية التي سادت العديد من دول الربيع العربي. فلا الدولة انهارت فيها، ولا تحكمت فيها جماعة دينية مثل «الإخوان المسلمين» في مصر والتي حولت نجاحها الديموقراطي إلى ديكتاتورية سافرة، ما دفع الجماهير المصرية إلى القيام في 30 حزيران (يونيو) بانقلاب شعبي أيدته القوات المسلحة في 3 تموز (يوليو)، وأعلن قائدها العام الفريق أول عبدالفتاح السيسي خريطة طريق جديدة تمثلت في إلغاء الدستور «الإخواني» وحل مجلس الشورى، ووضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات رئاسية فاز فيها السيسي بنسبة عالية، وبقي تنظيم الانتخابات البرلمانية.
تونس بمفردها هي التي استطاعت بنجاح مبهر المرور بسلام من المرحلة الانتقالية الصعبة من السلطوية إلى الديموقراطية. وبعد وضع الدستور نظمت الانتخابات البرلمانية التي فاز فيها حزب «نداء تونس» بالأكثرية وجاء الأول وتبعه حزب «النهضة» الإسلامي والذي جاء الثاني في الترتيب. ويلفت النظر أن الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب «النهضة» صرح: «إن الحزب لن يدفع بمرشح له في انتخابات رئاسة الجمهورية». ومعنى ذلك أن تونس هي الوحيدة التي يمكن أن تعطينا الأمل في تأسيس نظام ديموقراطي حقيقي تشارك فيه أحزاب ديموقراطية إسلامية.
غير أن هذه العبارة الأخيرة تحتاج إلى تحليل نقدي، فهل يمكن فعلاً ألا يكون هناك تناقض بين الإسلام والديموقراطية؟
السؤال بهذه الصورة يحتاج في الواقع إلى تصحيح واجب! فالإسلام دين سماوي، وهو بهذه الصورة لا ينبغي إقحامه في جدل سياسي، ولذلك من الأفضل أن نتساءل: هل هناك تناقض بين الفكر الإسلامي والديموقراطية؟
وحين نركز على كلمة «الفكر» فمعنى ذلك أنه فعل بشري وممارسة تقوم بها مجموعات من الناس الذين يستندون إلى بعض القواعد الإسلامية. وهؤلاء الناس قد يوجد من بينهم «مشايخ» متخصصون في الدين بحكم دراستهم في معاهد دينية، وقد يكون من بينهم مثقفون عاديون تعلموا في جامعات غير دينية، غير أنهم يصدرون في فكرهم عن مرجعية إسلامية.
وبالنسبة لكل فريق فإن آلية «التأويل» هي الآلية الأساسية التي يلجأ إليها لتفسير القرآن أو الحديث، وهذه مشكلة تستحق أن نناقشها بالتفصيل في ما بعد.
* كاتب مصري/”الحياة” اللندنية