ما إن بدأ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التونسيّة، التي أُجريت يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والتي أفرزت فوز حركة «نداء تونس» بـ85 مقعدا من مجموع 217 مقعدا، حتى بدأت الأحزاب المتراجعة والخاسرة انتخابيا في جمع شتات بعضها البعض ملتفة حول خطاب واحد، يدور حول فكرة اليقظة من ظاهرة «التغول» السياسي.
ويدعو هذا الخطاب إلى ضرورة تكاتف بعض الأحزاب والاتفاق حول مرشح للانتخابات الرئاسية، يتم دعمه وذلك لقطع الطريق أمام رئيس حركة «نداء تونس» السيد الباجي قائد السبسي المرشح للرئاسة، خصوصا أن مؤشرات عدّة، تؤهله ليكون رئيس تونس القادم.
لذلك، فإن ظاهر خطاب قيادات هذه الأحزاب، التي لم يحالفها الحظ يحاول أن يدفع التيار في اتجاه لا يكون فيه رئيس الحزب الفائز بأكثر عدد من المقاعد هو نفسه أيضا الفائز بالرئاسة، أي ألا تجمع حركة «نداء تونس» بين الأغلبية النسبية في البرلمان وأيضا مؤسسة الرئاسة.
ومن هنا جاء مفهوم «التغول»، الذي تُدافع عنه الأحزاب التي تبنته بقوة، وتعتبره أطراف أخرى مجرد «فزاعة» ومحاولة للالتفاف على سير النهج الديمقراطي الحر والشفاف وطريقة مخاتلة لتقويض حظوظ حركة «نداء تونس»، الفائزة في الانتخابات التشريعية.
وإذا كان البعض من مجموعة الأحزاب المتبنية لخطاب «التغول»، يعمل ضد تجمع السلطة في حوزة حزب واحد ممّا قد يفتح الباب، حسب اعتقادهم، لعودة الديكتاتورية، فإن انضمام حركة «النهضة» ضمن المجموعة السياسية المنحازة لفكرة التغول، يبدو أنه ينطوي على رسائل أخرى، أهمها توجيه رسالة إلى حركة «نداء تونس» مضمونها أنها في صورة عدم إشراكها في الحكومة فهي قادرة بحكم فوزها – أي حركة النهضة – بـ69 مقعدا في البرلمان، إضافة إلى تحالفاتها القديمة الجديدة على دعم مرشح آخر للرئاسة تستنفر من أجله الحركة قاعدتها الشعبية، وتقلل بذلك من حظوظ فوز رئيس حركة «نداء تونس» السيد السبسي بمنصب الرئاسة.
ومن ثم، فإن خطاب «التغول» وإن كان يعبر في ظاهره عن موقف عام لمجموعة أحزاب ضد ما سموه «تغول» حركة «نداء تونس» في الحياة السياسية في تونس، فإن الأهداف من التركيز إلى حد الفوبيا مختلفة من ناحية النوايا السياسيّة. فنحن أمام حملة دعاية مضادة ضد الحركة الفائزة في الانتخابات التشريعيّة وأمام ردود فعل سياسية، تكشف عن تردد واضح في مدى قبول اللعبة الديمقراطية وشروطها ونتائجها.
ولكن ما يهمنا في هذه الورقة، هو تبيان هل أن فوبيا «التغول» السياسي لحركة «نداء تونس» تستند إلى معطيات موضوعية أم أنها مجرد غطاء سياسي، تُدافع به عن نفسها الأحزاب المتراجعة والأخرى الخاسرة كثيرا في الانتخابات التشريعية؟
طبعا موضوعيا، لا نستطيع أن ننكر ما تنطوي عليه هذه «الفوبيا»، رغم ما تضمره من مناورة سياسيّة، من مضمون يستحق النظر فيه. وكونه صادرا عن أطراف ذات حظوظ متواضعة ومتفاوتة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فإن ذلك لا يلغي الإنصات إلى هذا الموقف وأيضا مناقشته والرد عليه بالمنطق لا بتقزيمه وتهميشه والتعامل معه كخطاب الخاسرين لا غير.
ويبدو لي أن خطاب الأحزاب السياسية بشكل عام سواء المتراجعة أو التي حازت مقاعد دون توقعاتها وتاريخها النضالي، يفتقد إلى العقلنة والتنسيب.
ذلك أن الحديث عن الأغلبية وعن التغول بالنظر فقط إلى نتائج الانتخابات التشريعية ليس بالحديث الدقيق أو الصريح. فالمقصود أيضا بالتغول هو عودة بعض الرموز التي عملت مع النظام السابق، وهي مسألة من المهم أن يحسمها التونسيون بشكل نهائي حتى تستطيع تونس المضي قدما؛ فبمجرد تصويت المجلس الوطني التأسيسي ضد قانون العزل السياسي، فإن طور التصفية السياسية قد سقط ليفسح المجال فقط للقضاء.
ولقد كانت هذه الخطوة دليلا على أن ممثلي الشعب التونسي في البرلمان جانبوا التورط في نهج الانتقام السياسي المحض.
أما المعنى الثاني المقصود من استعمال توصيف «التغول»، فإنه أيضا مردود عليه حسب اعتقادنا، وذلك باعتبار أن قراءة دقيقة لنتائج الانتخابات وتمعنا موضوعيا في الأرقام سينتهي بنا إلى وضع كل حزب في نصابه وفي موقعه وتحديد حجمه أيضا. فالقول بالأغلبية هو قول موغل في النسبية. ويجب ألا ننسى أن فوز حركة «نداء تونس» في الانتخابات التشريعية، لا يضمن لها إلا الحد الأدنى من النسبية، ذلك أن العدد الإجمالي للمسجلين في الانتخابات يعد متواضعا جدا مقارنة بالعدد الإجمالي لمن تتوفر فيهم شروط ممارسة حق وواجب الانتخاب.
من جهة ثانية، هناك معطى آخر يزيد في إضعاف خطاب «التغول» وأيضا في تنسيب النتائج وفي مدى تمثيلية الأحزاب المتقدمة عن الأخرى. وتقول الأرقام إن 61.8 في المائة فقط من المسجلين قاموا بعملية التصويت، وهو معطى مهم جدا باعتبار أنه يبرز إلى أي مدى تبدو التمثيلية الشعبية ضعيفة (مليون صوت فقط لحركة نداء تونس). ومن ثم، فإنه يصعب التحدث عن «تغول» في ضوء قراءة كمية متأنية للأرقام والنسب.
أي إن «التغول» الحقيقي، ربما يكون في علاقة الأحزاب بعضها ببعض وفي الخوف من فوز رئيس حركة «نداء تونس» في الانتخابات الرئاسية، وهو حسب تقديرنا «تغول» افتراضي أكثر منه حقيقيا، إضافة إلى أن التحديات الراهنة سواء ذات الصلة بملف الإرهاب أو الوضع المالي والاقتصادي في تونس، تجعل من «التغول» المتحدث عنه حتى ولو كان حقيقة، نقطة ضعف بالنسبة للحزب «المتغول» أكثر منه نقطة قوة.
*كاتبة تونسية/”الشرق الأوسط”