الموقف مما يجري في قطاع غزة والقدس بمثابة بارومتر يؤشر على سخونة الأحداث أو هدوئها و يُقاس عليه للحكم على توجهات المواقف العربية والإسلامية والدولية ومدى مصداقيتها في التعامل مع أطراف الصراع ومع القضية الوطنية بشكل عام. أيضا فإن نهج إسرائيل في التعامل مع هاتين المنطقتين يختلف عن تعاملها مع بقية المناطق والمدن الفلسطينية، نظرا لأن ما تمارسه إسرائيل في هاتين المنطقتين غير منفصل عن رؤيتها للتسوية مع الفلسطينيين، وخصوصا فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية ومستقبل المقاومة في قطاع غزة.
لا غرو أن استهداف القدس الشرقية والمسجد الاقصى، استيطانا وتهويدا، ليس بالأمر الجديد، فهو متواصل منذ 1967، كما أن استهداف قطاع غزة، عدوانا وتدميرا وحصارا، أيضا ليس بالأمر الجديد، فغزة أكثر المدن الفلسطينية تعرضا للعدوان الإسرائيلي منذ 1948 حتى اليوم. الجديد في الأمر وصول عمليات الاستيطان والتهويد في القدس والأقصى والضفة الغربية بشكل عام لمستوى غير مسبوق في حجمه وفي استفزازه لمشاعر الفلسطينيين واستهتاره بالسلطة الفلسطينية، وفي تجاوزه لكل المواثيق والأعراف والاتفاقات الدولية والثنائية، مع انكشاف حقيقة النوايا الإسرائيلية بفصل القدس عن الضفة الغربية مع تكريسها عاصمة أبدية لدولتهم. أيضا وصول استهداف قطاع غزة عدوانا وحصارا لدرجة غير مسبوقة في إجرامها وتجاوزها لكل المواثيق الدولية واستهتارها بالرأي العام العالمي، مع انكشاف مخططات ما بعد الحرب لمساومة إعمار غزة مقابل المقاومة وسلاحها وتكريس فصل القطاع عن بقية فلسطين.
بالرغم من الطابع العنيف والإرهابي لتعامل إسرائيل مع قطاع غزة، والذي يُسقِط الآلاف من ابناء القطاع ما بين قتيل وجريح بالإضافة لحالة الدمار الكبير، إلا أن ما يجري في القدس والضفة أكثر خطورة استراتيجيا على مستقبل القضية الفلسطينية. غزة ستبقى أرضا فلسطينية ولا أحد طامع فيها أو يريدها، ومهما مارست إسرائيل من إرهاب ودمار فستبقى غزة ارضا فلسطينية، سواء حكمتها حركة حماس او حركة فتح أو اية جهة فلسطينية، أما الضفة والقدس فهي محل اطماع صهيونية وغير صهيونية وبالتالي مهددة في هويتها وفي وجودها كأراضي فلسطينية.
لقد سبق ان عالجنا العلاقة بين الانقسام وحصار غزة من جانب والاستيطان والتهويد في الضفة والقدس من جانب آخر في عديد من المقالات، بدأنا في كتابتها مباشرة بعد خروج شارون من غزة 2005، وحذرنا من خطورة المخطط ليس على غزة فقط، بل الأخطر على الضفة والقدس وعلى فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، ورصدنا بالتفصيل هذه المخطط الصهيوني في كتابنا الأخير (صناعة الانقسام : النكبة الفلسطينية الثانية) الصادر عن دار الجندي في رام الله وعمان، 2014، وجاءت الحملة الاستيطانية المسعورة في القدس أخيرا لتؤكد ما حذرنا منه وهو ان إسرائيل توظف قطاع غزة لتنفيذ استراتيجية الإلهاء وتشتيت الانتباه عن معركتها الاساسية في الضفة والقدس، والتي يُفترض أن تكون معركتنا أيضا.
فمن خلال حصار قطاع غزة والتصعيد العسكري يتم دفع الانظار بعيدا عما يجري في الضفة والقدس، ويتم إشغال سكان غزة وحركة حماس ومَن يتعاطفون معها بمشاكل غزة وكيفية الحفاظ على السلطة في القطاع بعيدا عما يجري في القدس والضفة، بل تسعى إسرائيل لفرض معادلة على قطاع غزة وعلى حركة حماس مفادها، رفع الحصار وإعادة إعمار غزة وربما قبول استمرار سلطة حماس في قطاع غزة، مقابل استمرار فصل غزة عن الضفة ووقف المقاومة المسلحة من غزة وداخل الضفة والخط الاخضر.
إذن، الهجمة الصهيونية الشرسة على المسجد الاقصى هذه الأيام غير منقطعة الصلة باستحقاقات وشروط إعمار غزة، وغير منقطعة الصلة بالتحركات السياسية الدولية للرئيس أبو مازن لإصدار قرار دولي بالاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال وتحديد سقف زمني للانسحاب الإسرائيلي، ورغبة الرئيس بعدم توتير الأوضاع الداخلية قبل عرض مشروع القرار الفلسطيني على مجلس الامن، ورغبة حماس ايضا بعدم توتير الأوضاع على حدود القطاع مع إسرائيل حتى لا تتعثر عمليات دخول المساعدات وبالتالي تزداد النقمة الشعبية على حماس، وغير منقطعة الصلة عما يجري في العالم العربي من حولنا وخصوصا التحالف الغربي والرسمي العربي لمواجهة إرهاب داعش.
إسرائيل تستغل الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية والحالة المتردية والمنفلتة في العالمين العربي والإسلامي لتُقدِم على ممارساتها الخطيرة في المسجد الأقصى والاستيطان في القدس والضفة، لأنها تعلم أن لا أحد من المسلمين اليوم مستعد لفتح مواجهة مع إسرائيل أو واشنطن من أجل القدس، حتى منظمة المؤتمر الإسلامي التي تأسست عام 1969 من 57 دولة إسلامية للدفاع عن القدس على إثر حرق الصهاينة للمسجد الاقصى في نفس العام، هذه المنظمة كانت وما زالت الغائب الأكبر عن ما يجري في القدس، وهو ما يُريح إسرائيل وواشنطن.
بيد الكل الفلسطيني كسر هذه المعادلة وإبطال المخططات الإسرائيلية أو على الاقل ارباكها وكسر قوة اندفاعها من خلال :
1- الخروج من عبثية خطاب مناشدة الانظمة العربية والإسلامية وجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي بالتدخل لإنقاذ المقدسات، فهذا الخطاب التقليدي والذي يردده الساسة الفلسطينيون منذ عقود أصبح ممجوجا ومقيتا، الأمر الذي يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين فلسطين ومحيطها العربي والإسلامي، ليس بالقطيعة بل بتجديد الخطاب والقائمين على العلاقات العربية والإسلامية وخصوصا السفراء ومستشاري الرئيس.
2- الاهتمام بتعزيز المقاومة الشعبية في الضفة الغربية وخصوصا في القدس في إطار استراتيجية وطنية تبدأ بمقاومة شعبية سلمية وعصيان مدني وإعادة النظر بالتنسيق الامني مع الاحتلال، وعدم الخوف من تصعيد المقاومة إلى مقاومة عنيفة ومسلحة إذا ما تمادت إسرائيل في عدوانها، دون أن يتبنى فصيل بعينه أية عملية يقوم بها المواطنون ضد الاحتلال.
3- التمسك بحكومة التكنوقراط التوافقية مع تحويلها لحكومة وحدة وطنية حقيقية، من خلال تطعيمها بممثلين عن القوى السياسية لتصبح حكومة مواجهة وتحدي، تتجاوز مهمة إعادة الاعمار فقط، لتمارس كامل صلاحياتها كحكومة وحدة وطنية تمارس مأموريتها في قطاع غزة، وتتلمس مشاكل وهموم المواطنين في الضفة والقدس.
4- استكمال بقية بنود المصالحة. بالرغم من صعوبة التحديات والإصرار الإسرائيلي على تكريس الانقسام من خلال تقييد التحرك والتنقل ما بين الضفة والقدس، وتقييد حركة حكومة التكنوقراط، واستمرار جزء مهم من حركة حماس متمسكا بلعب دور وظيفي غير وطني في قطاع غزة، إلا أن المصالحة مفتاح الانقاذ الوطني ممكنة، ويمكن أن تبدأ بالمصالحة المجتمعية و من خلال إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير لتستوعب كل القوى السياسية، و على مستوى توحيد الخطاب الإعلامي الخ.
5- إجراء مراجعات استراتيجية جريئة حول ما جرى ويجري في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، بعيدا عن خطاب الانتصار والإنجاز، العسكري أو الدبلوماسي، الذي لم يَعُد يُقنع أحدا من الفلسطينيين، فلا (انتصار) لحزب على انقاض وطن، ولا انتصار يمكنه أن يعوض فقدان الأرض والمقدسات والتخلي عن الثوابت وعلى رأسها الحق بالمقاومة الوطنية ضد الاحتلال.
6- وأخيرا والمهم، إن الحكم على نجاح الحكومة وكل الفصائل والأحزاب ليس من خلال ما يقومون به اعمال أو انجازات في قطاع غزة، بل بقدرتهم على التصدي للمخططات الصهيونية في الضفة والقدس، فهناك معركتنا الأساسية والاختبار الرئيسي.
*عميد كلية الآداب بجامعة الأزهر بغزة