ستون سنة مرّت، منذ أن أقسم الجزائريون بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات، وعقد الرجال العزم أن تحيا الجزائر.
ستون سنة مرت، منذ أن بلغ الإيثار بالجزائري، درجة أن يموت في سبيل أن يحيا الآخرون، ومع ذلك مازلنا نبحث عن ثمرة هذا الذي زُرع في قلب الجبال، وفي كبد التاريخ، فحوّل ما اعتبر في عرف السياسيين والقادة العسكريين بالمستحيل إلى ممكن، وتمكن الجزائريون من تحقيق استقلالهم بالرغم من تشبث فرنسا بالظِلال الجزائرية.
يُجمع الجزائريون على أن ثورتهم لا مثيل لها في التاريخ، ويُجمعون في نفس الوقت على أنهم لم يكونوا في مستوى هاته البداية الملتهبة، التي هزت العالم، خاصة وأنهم بمجرد أن أنهوا ثورتهم بنجاح، منّ عليهم الله بثروة، نظير هذا النجاح، فجّرت من تحت أراضيهم أنهار من البترول ومحيطات من الغاز، وبدلا من أن يجمعوا التاريخ الذي رسموه بدمائهم، بالجغرافيا التي كانت هِبة من الله، أضاعوا طريقهم، فتاهوا في عالم الماديات، وبدلا من أن نبني دولة، كما قال الرئيس الراحل هواري بومدين، لا تزول بزوال الرجال، بنينا رجالا لا يزولون حتى ولو زالت الدولة أمامهم في كل المجالات.
المنظر العام الرسمي، الذي عرفته الجزائر نهار أمس، تمثل في صور متكررة طبق الأصل، لسلطات، تنتقل ضمن بروتوكولات، إلى مقابر الشهداء، لتقرأ فاتحة الكتاب، وتعزف النشيد الوطني، وبلديات تعلق الأعلام في الشوارع، ولو يقوم التلفزيون الرسمي الجزائري، ببث احتفالات عام 1968 أو عام 1984 لما لاحظ المشاهد أي فارق، اللهم في الوجوه التي تضع الورود على مقابر الشهداء وعلى النصب التذكارية، ولم يحدث للأسف، لوزير غادر الحكومة أو وال أو رئيس بلدية أقالوه من منصبه، وأن قام بمحض إرادته بالمشاركة في هاته الاحتفاليات، التي جعلت المواطنين، أيضا غير مهتمين بالاحتفال بالذكرى، إلا من خلال الاستفادة من يوم العطلة الذي تتفضل به الدولة على العمال والطلبة، ومرة أخرى يحمل الجزائريون الأعلام، ويحجون بعشرات الآلاف، مضحين بالمال وبالوقت، إلى ملعب البليدة، لمتابعة مباراة وفاق سطيف الإفريقية في الفاتح من نوفمبر، وتغيب الأعلام عن شرفات العمارات، ويغيب حتى أبناء الشهداء عن زيارة ذويهم للترحم عليهم، أو كما اختصر السيد رباعين نهار أمس، من ميلة وزارة المجاهدين في كونها صرّافة أموال، على شاكلة وزارة الصحة والتعليم العالي والتربية والتعليم وغيرها من الوزارات، التي تطفئ غضب الشارع بخرطوم أنبوب المال المثبت فمه هناك.. في حاسي مسعود.
لا يمكن للثورة الكبيرة أن تنجح من دون ثورات في الذهنيات، ثورات تجتث الاستعمار الحقيقي للعقل المتجمد، فقد مرت السنوات، وحوّل البعض، الثورة الكبرى إلى بطاقة عبور نحو كل جنان الدنيا، وحوّلها آخرون إلى سجلات تجارية، وبين هذا وذاك حصروها في قشور فأضاعوا اللب الذي من أجله قامت فانتظرنا ثمار الثورة، فمرت كل الفصول من دون أن …….؟
*كاتب وصحافي/”الشروق” الجزائرية