ارتبط مفهوم الديمقراطيّة في بلدان الربيع العربيّ بمخاوف من الواقع الجديد الذي قد تفرزه الانتخابات الحرّة الشفّافة، خصوصاً إذا أعطت الفوز لتيّارات الإسلام السياسيّ. وعندما وقع (المحظور)، بوصول الإسلاميين إلى مواقع القرار في مصر وتونس، تُرجمت تلك المخاوف إلى أزمات ومواجهات عنيفة، ما أدّى إلى إقصائهم عن الحكم، كرهاً وطوعاً. فحصل الانقلاب العسكريّ لإكراه “الإخوان المسلمين” على الزوال من المشهد السياسيّ، وتبعه الانسحاب الذي رضيت به حركة النهضة التونسيّة، حفاظاً على مصلحة البلاد وعلى مستقبل الحركة نفسها.
ومع الاستحقاق الانتخابي الجديد في تونس، تلوح في الأفق المخاوف نفسها من غول الديمقراطيّة ومكاره الانتخابات. وتتصاعد الأصوات التي تتّهم الخصوم أنفسهم بالتخطيط، في صورة الفوز العريض، للتغوّل في ممارسة الحكم واحتكار المنافع. وبسبب هذه التوقّعات المسقطة للديمقراطيّة، بمفهومها السويّ، بات التصويت شرّاً لا بدّ منه، على الرغم من إجراءاتٍ اتّخذت للتوقّي من تداعياته، بإحكام السيطرة على نتائجه مسبقاً عبر القانون الانتخابيّ (الذي قدّرناه تقديراً)، وجعلناه مشروطاً بمبدأ الاقتراع على القوائم، حسب التمثيل النسبيّ، واعتماد آليّة أكبر البقايا في احتساب النتائج النهايّة. وبذلك، تحصل الأحزاب الصغيرة على عددٍ لا بأس به من المقاعد، بما يقلّص من هيمنة المنافسين الكبار.
لكنّ واقع الحال يثبت أنّ تلك الاحتياطات لن تمنع الأصوات المعارضة من الاحتجاج مجدّداً على النتائج المنتظرة، إذا منحت لحركة النهضة فوزاً ثانياً، الأمر الذي قد يتطوّر إلى ابتزاز سياسيّ، بتعلّة الحوار والتوافق.
ومن مؤشّراتٍ تمهّد لذلك الابتزاز، ظهور ما يمكن تسميتها عمليّات الفرز المسبقة لأصوات الناخبين، قبل وصولها إلى الصناديق. فرز أيديولوجيّ يقسّم التونسيّين إلى تيّارات متصارعة، ويبعث رسائل تؤلّب طرفاً على طرف، أو تشيطن حزباً دون غيره، أو تغازل لوناً سياسيّاً ذي ثقل، فتنمّق به خطاباً متغيّراً، يطمئن حيناً ويهدّد حيناً آخر.
وفي هذا السياق، عبّر الرئيس الحالي، منصف المرزوقي، عن ثقته بما أسماه “شعب النهضة” الذي سيمنحه الانتصار للبقاء في منصبه لولاية ثانية، حتّى يعمل على النهوض باقتصاد البلاد، وتحسين الأوضاع المعيشيّة للتونسيّين، بعد أن “نجح مع حكومة الترويكا في كتابة الدستور وضمان الحريّات وبناء مؤسّسات النظام الديمقراطيّ، على الرغم من صعوبة الظرف الذي أحاط بذلك الانتقال”، حسب تعبيره. وفي مقابل تلك الثقة، كرّر قياديّون في الجبهة الشعبيّة مواقفهم الرافضة نتائج الانتخابات، إذا لم تعكس حجمهم وشعبيّتهم، واعتبروا عدم الحصول على كتلة نيابيّة كبيرة دليلاً على التزوير. أمّا نجيب الشابي فاختار أن يحذّر الاسلاميّين من المخاطر التي تهدّد مستقبلهم، مرجّحاً أنّهم سيصوّتون له بكثافة، لأنّ “النهضة تريد دعم رئيسٍ لا ينقلب عليها”.
وعموماً، تساعدنا الأمثلة السابقة على التمييز بين مواقف متناقضة في التعامل مع الإسلاميين، والخيط الذي يربط بينها هو التفاوت الملحوظ في درجة الاعتراف بمدى قوّتهم وشرعيّة وجودهم فاعلين في الحياة السياسيّة. واللاّفت أنّ ما قاله نجيب الشابّي يعكس بدقّة ذلك التفاوت بين الاعتراف وما يقتضيه من الشراكة والتعاون، والإنكار الذي قد يوصل إلى القطيعة والمواجهة، وحتّى الانقلاب، المسلك الذي نفاه نجيب الشابي عن نفسه ليفهم الإسلاميّون أنّه ممكنُ الحدوث، بوصول خصم لدود لهم إلى منصب الرئاسة.
ولأنّ حركة النهضة واعية بتلك المخاطر، عملت على تطوير خطابها، ليكون أكثر واقعيّة، حتّى تطمئن خصومها، وتنأى معهم، وبِهِمْ، عن الصراع الأيدولوجي الهدّام، في سبيل التفرّغ لقضايا التونسيّين وانتظاراتهم. وقد نبّه عبد الفتاح مورو، أحد مؤسّسي الحركة (في حوار مع صحيفة العربيّ الجديد)، إلى تلك النقلة النوعيّة، بقوله إنّ معركتنا الآن “ليست أيديولوجية، المعركة الحقيقية هي تجنيد الشعوب من أجل العمل والبناء والتنمية”. وفي خطابها الانتخابيّ، بسطت حركة النهضة يديها نحو الجميع، ليشاركوها العمل للبناء.
غير أنّ ذلك الخطاب لن يلطّف، على الأرجح، من شراسة خصومها في أقصى اليسار، ما ينذر بمواجهة معهم، خصوصاً إذا فازت “النهضة” بكتلة نيابيّة واسعة تتيح لها تشكيل الحكومة الجديدة. ولعلّ المنظّمات الراعية للحوار الوطنيّ، في انتظار تلك المواجهة لتتصدّر المشهد من جديد. وتجعل من حجّة التوافق أداة فاصلة لتعديل النتائج المنبثقة عن صناديق الاقتراع.
والعارف بذلك الرباعيّ الذي يضمّ اتحاد الشغل والرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان، واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين يؤكّد ولادة لوبيّ، أو كيان سياسيّ بصلاحيّات واسعة، تمكّنه من حلّ الحكومة، كما فعل، في الأمس القريب، عندما رفع “الفيتو” في وجه الترويكا وأبعدها عن الحكم، وتُخوّل له تحديد السياسات والإشراف على تنفيذها، كما يفعل، اليوم، مع حكومة التكنوقراط وهو يراقب تقدّمها في تنفيذ بنود خارطة الطريق التي تطالب بمراجعة التعيينات السابقة وتحييد المساجد. فمن يضمن غداً زوال هذا الكيان، ومنعه من التغوّل في ممارسة الضغوط، أو رفع “فيتو” جديد يحبط الناخبين، ويحوّل أصواتهم إلى سرابٍ يحسبه الظمآن ديمقراطيّة؟
*كاتب تونسي/ “العربي الجديد”