لولا حالة التنافر التي تطبع العلاقة بين المغرب والجزائر، على خلفية حادث توتر حدودي، ما كان للانفتاح المتبادل بين الرباط ونواكشوط أن يرتدي أهمية أكبر. فالعلاقات بين البلدين لا تزيد عن كونها عادية أو أقل، إلا أن توقيت ترميمها، على إيقاع ما تشهده منطقة الشمال الإفريقي من انكسارات وأزمات واضطرابات، يدفع إلى الاعتقاد أنها تروم تعزيز التعاون الثنائي، من دون أن يصل الأمر إلى حافة العودة إلى سياسة المحاور القديمة منذ أكثر من ربع قرن.
قبل تأسيس الاتحاد المغاربي عرفت الساحة المغاربية تجاذباً إلى محورين، أحدهما كان يضم المغرب وليبيا، ضمن معاهدة «الاتحاد العربي الإفريقي» الذي اعتبر في توقيته أول اتفاق وحدة بين نظام ملكي وآخر خارج التصنيف. والآخر شمل تونس والجزائر وموريتانيا ضمن معاهدة الاخوة والوئام. وكان لافتاً أن التجربتين معاً ألغتا قاعدة الحدود المشتركة التي تشتد إليها التجارب الوحدوية عادة. وبدا للمرة الأولى أن بعد الحدود يرادف الابتعاد عن حساسياتها التي تنبعث من تحت الرماد.
لا ينطبق ذات التوجه على التجاذبات الراهنة. فقد حدث تقارب أكبر بين تونس والجزائر، بهاجس التصدي لتداعيات الانفلات الأمني في ليبيا التي ترتبط بحدود مشتركة مع الجارين التونسي والجزائري، من دون إغفال بواعث محلية وإقليمية لها صلة بتداعيات ما عرف بالربيع العربي وترتيب الأجواء في فضاء الشمال الإفريقي. والحال أن التقارب بين الرباط ونواكشوط يستمد ضروراته من الشعور بتنامي مخاطر التهديدات الأمنية القادمة من الساحل جنوب الصحراء. إضافة إلى إقامة طوق إفريقي بمواصفات الحوار (جنوب – جنوب) وكما دخل المغرب على خط الأزمة في مالي انبرت موريتانيا للقيام بدور على طريق تكريس المصالحة بين فصائل متناحرة.
لكن الغائب في هذه المساعي، على افتراض أنها لا تناقض روح الاتحاد المغاربي الذي لم يبق منه إلا الاسم، هو التلويح بإرادة البناء المغاربي كخيار استراتيجي يظل عديم المردودية على أرض الواقع. بدليل أن العواصم المعنية عجزت عن مجرد التئام القمة المؤجلة منذ حوالى عقدين. ولا تكاد آليات الاتحاد المغاربي تظهر إلى الوجود إلا عندما يتعلق الأمر بالحوار مع الشركاء الأوروبيين، ضمن منظومة 5 + 5، التي تعرض لإشكالات التعاون الأمني والدفاعي والتنسيق السياسي.
كيف يتأتى للعواصم المغاربية التي تتغنى بروابط الدين والتاريخ واللغة والمصير المشترك أن تذعن لمنطق الحوار مع الشريك الأوروبي، ولا تنفض الغبار عن ركام اتفاقات والتزامات كان في وسعها أن تحررها من إكراهات الانفراد في مفاوضات استراتيجية، لو اختارت الحديث بصوت واحد. يعرض الأوروبيون مواقف موحدة إزاء مخاطر الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتفشي المخدرات والجريمة المنظمة، ولا يقدر المغاربيون على فتح هذه الملفات مع بعضهم. يطلب الأوروبيون تنسيقاً واضحاً على مواقع الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، سيأتيهم الرد في شكل توتر على الحدود بين المغرب والجزائر واضطرابات عاصفة في ليبيا ومخاوف مقلقة من منطقة الساحل.
لا مبرر للتقاعس الحاصل في إحياء ومعاودة تفعيل الاتحاد المغاربي، اقله أنه يشكل الخيمة التي لا يرغب أي من الأطراف في هدمها، على رغم أن أوتادها صدأت من فرط الجمود. واللافت أنه ما من عاصمة مغاربية، بخاصة الجزائر وموريتانيا والمغرب، إلا وجربت حظها في دعم خيار المصالحة بين الفصائل المتناحرة في مالي. وهي لا تتوانى عن مد اليد لإنقاذ فصائل أخرى متصارعة في ليبيا، بغاية إقرار مصالحة الأمن والسلم ونزع السلاح. إلا أنه في حالة المغرب والجزائر تغيب هكذا مبادرات.
منطق الأشياء يرهن أي مصالحة بإبداء الرغبة المشتركة، والمشكل بين البلدين الجارين أنهما يتخندقان في مواقع لا تسمح بانبعاث مساعي الصلح ورأب الصدع. غير أن حادث الحدود، على رغم طابعه المعزول، يشير إلى أن الجارين يقفان على مشارف التدهور. فقد كانت الحدود مصدر توتر وأزمات. والأكيد أن السياجات الأمنية مهما كانت نوعيتها وطبيعتها لا تحد من اختراق الرصاص الطائش.
*كاتب من المغرب/ “الحياة” اللندنية