جال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون متفقداً انقاض غزة المدمَّرة، ومن بين ركامها…الذي سبق وأن ادمن كل العالم وحفظ عن ظهر قلب مشاهده المريعة بالصوت والصورة مُتكررةً على شاشات التلفزة ثم ما لبث وأن شفي من ادمانه ونسى بسرعة ما حفظه…كان للأمين العام لهذا المحفل الأممي تصريحاً مدهشاً، قال فيه إن “الدمار الذي رأيته اليوم في غزة يفوق الوصف”! المفارقة هنا هى في أن ما قالة يذكُّرنا بأن الرجل نفسه كان قد جال في ذات الأمكنة المدمَّرة والمعاد تدميرها إياها قبل خمسة اعوام مردداً ما يقارب ذات التصريحات، مضيفاً إليها في هذه المرة قوله، ” وهو اكبر بكثير مما رأيته في العام 2009″! ويقصد هنا ما شاهده إثر عدوان نهايات العام 2008 وما الحقه حينها من خراب بغزة لم يتم اعمار اغلبه حتى الآن، أو هو ما ظل الباقيحتى اضافة ما اضافتهالحرب العدوانية الأخيرة على ركامهمن ركام يعجز بان كي مون مرة ثانية عن وصفه.
الصهاينة ابوا إلا أن تكون لهم لمستهم الخاصة لاعطاء زيارة الأمين العام التفقدية لما الحقوه من دمار في غزة نكهتها الإعمارية المطلوبة، واستغلالاً منهم للمناسبة التي تتيحها لهم لتجميل قبائح فعالهم، فسمحوا ولأول مرة منذ أن توقفت الحرب بادخال كمية بخسة من مواد البناء عبر معبر كرم ابو سالم، تلقفها ورحب بها رئيس حكومة سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الاحتلال رامي الحمدالله وعدَّها اشارة البدء لانطلاق عملية اعادة اعمار غزة المنتظرة، أو هذه المفترض أنها المعطوفة على حصيلة مداولات مؤتمر المانحين الذي دعت اليه النرويج واحتضنته القاهرة قبل يومين فحسب من تفقُّد بان كي مون لغزة وانطلاقة الحمدالله الإعمارية.
كان مؤتمر القاهرة الأخير أكثر كرماً على غزة من مؤتمر شرم الشيخ في العام 2009، ففي حين أن الأول قد تعهَّد حينها برصد 4,481 مليار دولار لإعادة اعمار غزة، تعهَّد الأخير مزاوداً على سابقه ب5,4 مليار دولار…وحيث أن الرعاة والداعين والمتداعين والمضيفين هم هم في المؤتمرين، ونعني الأميركان والأوروبيين وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بمعنى ذات حلفاء الصهاينة ورعاتهم وحماتهم ونفس اعداء المقاومة ودعاة نزع سلاحها، يضاف لهم اصدقاؤهم إياهم من العرب، لم يُنفَّذ، كما هو المعروف، شيئاً مماتعَّهد به الأول، أما الثاني فإن وعوده مشروطه ومربوطة سلفاً بالتسوية، وعودة سلطة اوسلو الى غزة…عودتها التي، ووفقاًللمراد منها، وما يتيحه ماهو باد من حالها العصي على التبدُّل، لن تكون إلا مع معهود نهجها التسوويإياه وبمساراته التفاوضية التنازليةإياها، ناهيك عن تعهُّداتها الأمنية وعلى رأسها تنسيقها الأمني مع الاحتلال،أي سحب انموذجها الأمني المطبق راهناً في الضفة على غزة…كان جلياً أن ما اجمع عليه كل المشاركين في هذا المحفل الإعماري التسووي، هو ذات ما سبق وأن كان منهم في شرم الشيخ واخبرونا به سلفاً مؤخراً في القاهرة، أو ماتستبطنه مقولةإن “الحل السياسي يجب أن يسبق الإعمار”…ويمكن أن نضيف من عندنا، وبالنظر إلى ماهو كامن وراء كرم المانحين، وفتح المعابر رهنبنزع سلاح المقاومة… بمعنى أن اعادة الإعمار هذه مشروطة بتقدم المفاوضات، الذي لايعني سوى استدرار المزيد من التنازلات الفلسطينية باتجاه تصفية القضية، بمعنى أن العملية بمجملها معلَّقةبمدى مردودها التصفوي!!!
هذه الجلبة الإعمارية التسووية مُهِّد لها بالتباطوء المنسَّق لإعادة الإعمار، وعدم رفع الحصار، ومواصلة احكام اقفال المعابر، بشقيه الصهيوني والعربي، ويمكن اضافة تزامن راهن الجلبة الأوروبية المثارة حول الاعتراف الرمزي بدولة فلسطين الإفتراضية الى ذلك. وإذ يتحدث المانحون عن ضرورة اعادة الإعمار، لكنهم يركِّزون على ضمان أن ما سيجودون به لن يذهب هباءً، بمعنى ضمان أن لايغضب الغزِّيون الصهاينة فيعيد هؤلاء تدمير مايبنى، والذين من عجب يتحدثون اليوم بحماس عن اعادة اعمار ما دمَّروه، وعن معاناة الغزيين، وكأن مسؤولية ما ارتكبوه تقع على عاتق سواهم. والأطرف منه، هو أنهم، وهم الذين يعتبرون أنفسهم المعنيين قبل سواهم بالحكاية، قد غُيِّبوا ظاهرياً عن المؤتمر بتفاهم مسبق يقولون أنه قد تم مع المضيفين، لكنهم، وبالعودة إلى تصريحات ليبرمان، قدحرصوا مسبقاً على رسم خريطة لمسار هذا الإعمار عبر تنسيق تم مع الولايات المتحدة، إذ يقول، إن “هناك تفاهمات لابأس بها” قد تمت مع الأميركان، وأن “العتاد سيمر عبر حواجزنا الأمنية”، واكثر منه، إنه “يستحيل اعادة اعمار غزة من دون مشاركة اسرائيل”، بمعنى وجوب أن يأخذ الصهاينة نصيبهم من مليارات اعادة الإعمار لو أنها تمت، او أنها لابد أنتصب في نهاية المطاف في صالحهم!
…في ظل جلبة الإعداد لمؤتمر اعادة الإعمار المعلق، أو المشروط بتقدم المفاوضات التسووية التصفوية المنتظرة، اقر الصهاينة مشروعاً جديداً لخطوة تهويدية اضافية تقضي ببناء 2160 وحدة استعمارية جديدة في القدس ومناطق اخرى في الضفة، وعشية انفضاض هذا المؤتمر، وقبل أن تتبدد اصداؤه الإعمارية، طبقوا هدفهم الذي مهَّدوا له عملياً منذ أمد وهو تقسيم الحرم المقدسي زمنياً، حين استباحوا ساحاته في عيدهم المعروف ب”العُرش”، ومنعوا المقدسيين من الصلاة فيه، واحرق رعاعهم في ظل حماية جندهم مسجداً في نابلس…مما سبق يتضح لنا أن أول ضحايا إعادة الإعمار المشروطة والمشكوك في تنفيذها هو تكاذب ما بعد فرية ما دعيت ذات يوم بالمصا لحة…ومعها حلم الوحدة الوطنية الفلسطينية.