إشارة عابرة لمعت في الأفق، حين قال العاهل المغربي الملك محمد السادس لنواب البرلمان: «انظروا إلى ما يحدث حولكم». لعله أراد الإيحاء بأن ما من حل يصمد على أرض الواقع في مواجهة حال الاضطرابات والفوضى وعدم الاستقرار التي تعانيها بلدان عربية، غير الخيار الديموقراطي الذي يكفل عراك الأفكار والرؤى، بدل حشد السيوف والسكاكين والقتل غير الرحيم.
صادف أنه قبل أيام دشن العاهل المغربي متحفاً للفن الحديث. فهمت الرسالة أنه في الوقت الذي تعمد فيه التنظيمات الإرهابية إلى هدم المعابد والأضرحة والمزارات وإشاعة الأحقاد والحروب الدينية والمذهبية، يقدم المغرب نموذجاً مغايراً في رعاية الفن والإبداع والثقافة. فلا أروع من حمل ريشة الفنان بدل كلاشنيكوف المقاتل، إذ يكون بلا قضية ويمارس أبغض أنواع الوحشية.
لا رابط بين الحدثين، إلا من حيث الدلالات الرمزية، فالكلام أمام البرلمان عن الاعتزاز بالهوية التي تقوم على قيم التسامح والتعايش ونبذ العنف وتغليب المصلحة العامة، يراد به إيلاء العناية للثقافة والموروث الحضاري. وربما قصد العاهل المغربي التأكيد أن الحرب على التطرف والإرهاب ذات أبعاد ثقافية أيضا. فهي سياسية لناحية تعزيز المسار الديموقراطي الذي يتيح مشاركة الجميع. وثقافية من حيث الاهتداء بالفكر التنويري والثقافة التي تصون شخصية الأفراد والمجتمعات والهويات من دون إغفال أن هناك حروباً لا يمكن ممارستها بغير السلاح القاتل .
لم تتشعب حرب كتلك التي أعلنها العالم المتحضر ضد الإرهاب والتطرف منذ هجمات أيلول (سبتمبر) الأسود. وبالقدر الذي تضافرت الجهود للتصدي للظاهرة المريبة، بالقدر الذي زادت استفحالاً، مع انتشار بؤر التوتر والأزمات الإقليمية التي باتت نار حطب ومرتع تنامي العنف والعصبية وهدم قيم الحياة وكرامة الإنسان.
عندما يعرض ملك المغرب لفضيلة الاعتزاز بالانتماء إلى الأوطان، لا يتوقف عند حرفية الانتساب التاريخي والجغرافي ومتطلبات صون الحقوق وأداء الواجبات فقط، بل يذهب أبعد في اتجاه وضع اليد على مكامن الخلل في تجارب سياسية انفلتت من عقال هذا الالتزام. أكان ذلك في صورة تنظيمات مسلحة تعمل خارج إطار القانون ودولة المؤسسات التي تحمي أمن الوطن والمواطنين، أو في شكل نزعات إرهابية تصفي الحسابات مع الجميع، بعقلية استئصالية وأساليب وحشية، كما يحدث في ممارسات ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية في العراق وسورية». فالأوطان فوق الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية، وحين ينهار رابط الانتماء يصبح في الإمكان توقع أي مغامرات ذات منحى إرهابي في الفكر والسلوك والعلاقة بالآخر.
المغرب ليس بعيداً عن الاكتواء بحمى الظاهرة الإرهابية. وما من بلد يستطيع الاطمئنان إلى أنه في مأمن. عندما اندلعت الهجمات الانتحارية في الدار البيضاء قبل أكثر من عشر سنوات تردد أن الخيار الديموقراطي الناشئ كان مستهدفاً. وتأكد لاحقاً أن دمج الدول في مسار التحولات، عبر آليات سلمية وتشاركية وديموقراطية، يسمح بالالتفاف حول مشروع مجتمعي يختاره الشعب عن قناعة. فالعراك بالأفكار وإن بلغت درجة التناقض والتباين أفضل من استخدام السلاح والعنف واغتيال الأمل.
إذ يشير العاهل المغربي إلى ما يحدث في بلدان عربية، كما ليبيا وسورية والعراق واليمن والصومال، إنما ينطلق من فكرة تحصين الخيارات التي تساعد في تثبيت ركائز الاستقرار، بخاصة في ظل تداعيات ما يعرف بالربيع العربي. فهي ذات صلة بصون واحترام الخصوصيات والتجارب النابعة من هوية الدول والشعوب. كما أنها تروم تكريس السلم الأهلي، أي مواجهة المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتسبب في الانفلات، ودعم قيم الانفتاح واحترام حقوق الإنسان والارتقاء بالممارسات الديموقراطية.
من هذا المنطلق، تكمن أهمية دعوة العاهل المغربي إلى اعتماد ميثاق أخلاقي للعمل السياسي وتهذيب وتطوير الخطاب السياسي الذي وصفه أنه «شديد الارتباط بالحسابات الحزبية والسياسوية». فالصراع السياسي مهما كانت حدته وهفواته، إذ يمارس بوسائل سلمية وحضارية، لا يتردى إلى مستوى الحروب الاستئصالية التي يشكل التطرف أحد مظاهرها، عندما يعجز العقل عن إيجاد مساحة أرحب للحوار والنقاش وجدل الأفكار. وأياً كانت مؤاخذات المشهد الحزبي الذي يصاب بالتوتر والغليان في الاستحقاقات الانتخابية، فإنها أقل ضرراً من ميول الغرائز التي تستبيح العنف.
في خضم رياح الربيع التي عصفت بمناطق مغاربية وعربية، اختار المغرب منهجية التغيير الهادئ الذي ذهب إلى أبعد مدى في معاودة توزيع صلاحيات السلطة، بما في ذلك تحويل ما كان حكراً على المؤسسة الملكية إلى رئاسة الحكومة والبرلمان. واليوم في ظل تداعيات المرحلة يتجه المغرب إلى تقويم أداء المؤسسات الديموقراطية. إنه يعتمد أسلوب التدرج درءاً لأي انفلات أو انزلاق نحو المجهول. فالكرة في ملعب الفاعليات السياسية ولا تستطيع مهما كان الشرود أو الأخطاء أن تغفل عن وجود حكم ومتفرجين.
“الحياة” اللندنية